الإثنين 30 أغسطس 2021 - 18:53

بقلم: مصطفى الجيلي خواجة
جاء في الأخبار السارة أنه تم الاتفاق ما بين شركة الخطوط البحرية السودانية )العائدة( والجهاز الاستثماري للضمان الاجتماعي بتمويل شراء أسطول مكون من عشر بواخر مختلفة بضائع عامة، حاويات وركاب وبهذه المناسبة أعود بالقاري الكريم إلى مقال حول هذا الموضوع كان قد تم نشره في الأول من مايو 2016م تحت عنوان )الخطوط البحرية السودانية والإبحار في اليابسة( الذي سردت فيه القصة الكاملة للخطوط البحرية السودانية منذ تأسيسها والمراحل والتطورات التي مرت بها وحتى خروجها إلى اليابسة ومعاً إلى نص المقال..
معلوم أن السودان هو الدولة الثالثة بعد مصر والعراق في منظومة الدول النامية التي أنشأت أسطولاً بحرياً تجارياً مستفيداً من اتفاقية التعاون الاقتصادي والفني مع يوغسلافينا التي وقعها الرئيسان عبود وتيتو لدى زيارة الأخير للسودان في فبراير 1959م وكان ميلاد شركة الخطوط البحرية السودانية المحدودة مناصفة بين الدولتين والتي زاولت نشاطها عام 1960م حيث تم تعيين رصفاء للكوادر اليوغسلافية من السودانيين للمشاركة في الأعمال اليومية لاكتساب الخبرة والتجربة وتمت عملية السودنة على مراحل امتدت لعشرة أعوام واستطاعت الشركة استيعاب أكثر من عشرة آلاف مستخدم من الوطنيين وفرت لهم شروط خدمة مجزية ومشجعة وخبرات عملية على المستوى العالمي بحراً وبراً وكانوا يمثلون قمة الانضباط بل وكانوا خير سفراء للبلاد في مختلف بلاد المهجر التي استقطبتهم للعمل بها، وأن هذه الشركة هي ملك لهذا الشعب التي بلغ عمرها نصف قرن ظلت خلاله تجوب البحار والمحيطات والتي آلت ملكيتها للسودان بالكامل في يناير 1967م بعد فض الشراكة مع اليوغسلاف.
وكانت كل باخرة تابعة لها تحمل اسم السودان تواصل رحلاتها في اقسى الظروف وحتى في فترات الحروب تعبر أمواج المخاطر على ضوء الشظايا وايقاع صافرات الإنذار والتاريخ يحفظ للخطوط البحرية السودانية إبان حرب الخليج يوم أن تحدت الباخرة أمدرمان الصلف الأمريكي وقذائف التهديد حتى اضطرت سلطات مراقبة الحظر بمنطقة الخليج وقتها لإخضاعها لعملية إنزال كاملة لطاقمها وتفتيش الباخرة تحت تهديد السلاح وكذا قاتلت بواخرها دفاعاً عن الإنسانية في اسمى صورها حيث حملت الدواء والغذاء لأطفال العراق المعذبين ووقف اطقم بواخر الشركة كالسيوف حتى انجزوا المهمة السامية وكذلك قاموا بدور بطولي وإنساني ووطني بنقل السودانيين وأسرهم وممتلكاتهم من العراق عبر ثماني رحلات تحت تهديد سلاح الجو والبحرية الأمريكية وكذلك قامت البواخر السودانية بإجلاء جميع الرعايا السودانيين وممتلكاتهم من اليمن خلال حرب اليمين عام 1994م عبر ثلاث بواخر توجهت لليمن من عرض البحار وبلغ جملة من تم ترحيلهم من العراق واليمن أكثر من سبعة آلاف مواطن كما يشهد التاريخ أيضاً للأسطول السوداني دوره البارز والكبير إبان حرب 1967م عند إغلاق قناة السويس عندها كانت البواخر السودانية هي الوحيدة التي وصلت ميناء السويس في 13/6/1967م لتوصيل الغذاءات للشقيقة مصر والمدافع لم تصمت بعد وإضافة إلى مخاطر الألغام ويشهد التاريخ أيضاً للخطوط البحرية السودانية دورها البارز والخطير في نقل المنقولات الخطرة المتعلقة باحتياجات الدفاع والتي تتجنبها السفن الأخرى.
ولما كان قيام الشركة أساساً انبنى على استراتجية اقتصادية وسياسية وامنية تمثل السيادة الوطنية فقد ظل دورها مرتبطاً أبداً بتحقيق المزيد من إنجازات التنمية الشاملة ولعبت دوراً محورياً في البعد الاجتماعي الوطني الذي جنب البلاد مخاطر الأزمات والضغوط السياسية من حيث تأمين تجارة البلاد الخارجية ونقل السلع الاستراتيجية المهمة مثل القمح ومدخلات الإنتاج الزراعي وغيرها.. ومثال لذلك تغطية احتياجات البلاد من السلع الغذائية إبان إغلاق قناة السويس، حيث ارتفعت تكاليف النقل إلى معدلات كبيرة.
واحجمت البواخر الأجنبية عن العمل في هذه المنطقة للمخاطر الكبيرة التي كانت تتعرض لها السفن نتيجة الألغام البحرية وحققت الشركة وقتها الأمن الغذائي الذي لا يتجزأ عن الأمن القومي الشامل ولو لا بواخر الشركة لواجهت الدولة معاناة كبيرة في توفير الاحتياجات الضرورية واتضح خطورة سلاح الأمن الغذائي على بلادنا في موقف باخرة القمح مدفوعة القيمة والتي وصلت المياه الإقليمية لمدينة بورتسودان عام 1993م وقامت أمريكا بتحويلها إلى جيبوتي في إطار الضغوط السياسية التي مارستها على النظام المباد وبذات الأسلوب الذي استخدم مع شركات البترول وكانت البواخر السودانية تنقل كل هذه المواد والتي تمثل احتياجات حياة المواطنين وتقديراً لتلك الأدوار الوطنية المأمولة والمرجوة في الخطوط البحرية السودانية وهي الناقل الوطني الوحيد الذي يجب وضعه في حدقات العيون إلا أن الشركة وللأسف العميق تعرضت لهزة عنيفة نتيجة العديد من العوامل وتدهورت الأوضاع فيها وبيعت بواخرها بأبخس الأثمان لسداد المديونيات وأن الشركة التي بدأت بباخرتين في عام 1962م وصل أسطولها إلى خمس عشرة باخرة عام 1980م هذا بخلاف ثلاث سفن لنقل الركاب ومهددة بالغرق لطول مكوثها بالشواطيء، وإذا تطرقنا إلى الجانب الاقتصادي البحت فمن المؤكد أن الخطوط البحرية السودانية لها جدوى اقتصادية عالية جداً وللتدليل على ذلك نجد أنه خلال الفترة من 2004م وحتى 2013م والتي تولى فيها النوراني يوسف دفع اللـه منصب المدير العام بالتكليف ولا يوجد في البلاد أو من السودانيين في الخارج من هو اكفا وأجدر منه بالمنصب )واللـه على ما أقول شهيد( لأنه من أبناء الشركة والتحق بها منذ تخرجه في جامعة الخرطوم ويعد من خبراء اقتصاديات النقل البحري الذي يشار إليهم بالبنان واستطاع بالتشغيل المثالي لباخرتين فقط أن يحقق الكثير فقد قام بتوفيق أوضاع الشركة وحقق استقراراً في سداد مرتبات العاملين والالتزامات الأخرى فضلاً عن سداد ما يزيد عن خمسة ملايين دولار من مديونيات الشركة المتراكمة منذ عام 1997م لجهات خارجية والتي كانت تشكل هاجساً أمام استمرار عمل البواخر التي كانت تتعرض للحجز المستمر في المواني الأجنبية الأمر الذي يشير إلى سوء الإدارة الناجم عن التعيينات السياسية التي انتهجها العقد المباد يأتي في مقدمة العوامل التي أدت إلى انهيار الشركة وتوقفها وخروجها من البحار لتبحر في اليابسة وراء السراب.
علي الرغم من النجاحات الكبيرة التي حققتها وتطوير أسطولها وكذلك النقلة الهائلة في مجال البنيات الأساسية المساعدة حيث تمكنت الشركة من شراء عمارة ضخمة في موقع استراتيجي بمدينة بورتسودان كمقر لرئاستها ومكاتب لإدارتها وشركاتها الفرعية، وكذلك تشييد مخازن للبضائع ومستودعات للحاويات بالقرب من ميناء بورتسودان وتشييد عمارة ضخمة بوسط الخرطوم في مجال الاستثمار لدعم إيرادات الشركة وليس استخدامها مكاتب حيث قام أحد المدراء آنذاكفي عام 1996م بنقل مقر رئاسة الشركة لتشغل هذه العمارة الاستثمارية ليبقى سيادته بالخرطوم ولتكون رئاسة الشركة بعيدة عن أصولها ومواقع عملها وكذلك امتلاك الشركة لمكاتب في لندن وهامبورج وامتلاكها لأكثر من الفي حاوية بالمواصفات العالمية وشاحنات لترحيلها من والي الميناء كما تميزت الشركة في تنوع أعمالها وتعدد مصادر إيراداتها بإنشاء عدة شركات فرعية مكملة لنشاطها الأساسي في النقل البحري وعلى رأس تلك الشركات التوكيلات الملاحية، وحصول الشركة على ثقة كبريات شركات النقل البحري واعتمادها كوكيل لبواخرها في عمليات الشحن والتفريغ والخدمات الأخرى بميناء بورتسودان كما وأن الشركة في سبيل تطوير أعمالها والتوسع المستقبلي للمساهمة في نقل صادرات خام البترول ومشتقاته دخلت في اتفاقية مع الشركة الماليزية للنقل البحري إحدى شركات مجموعة بتروناس الماليزية وبموجب تلك الاتفاقية أنشئت شركة )سودان لاين مسك العالمية( للنقل البحري وتمتلك شركة الخطوط البحرية السودانية 51% من الأسهم والشركة الماليزية 49% وحدد مقرها السودان وتعمل وفق قانون الاستثمار كناقل وطني )ثاني( وتهدف الشراكة إلى تشجيع وتنشيط حركة نقل الصادرات والواردات بين المواني السودانية ومختلف المواني العالمية كنشاط رئيسي والتوسع مستقبلاً للمساهمة في نقل صادرات البترول وبدأت الشركة نشاطها في إبريل 2006م.
وحققت معدلات قياسية ونجاحات كبيرة وأصبحت تشكل إضافة نوعية للخدمة المتميزة للعملاء والمصدرين والمستوردين بواسطة الحاويات واعتمدت الشركة في نشاطها على تأجير السفن في المرحلة الأولى، ولكن أصابها ما أصاب الشركة الأم..
لقد ظلت الخطوط البحرية السودانية ترفع علم السودان خفاقاً في مواني العالم وتحمل سفنها أسماء تعبر عن الوحدة الوطنية )نيالا – سنار – دارفور – الخرطوم – الجزيرة – الأبيض – أم درمان – القضارف –الضعين – دنقلا – مروي – شندي – مريدي( بالطبع قبل الانفصال.. وغير ذلك من الأسماء التي ترمز للوحدة بين أجزاء السودان و الان لم يتبقي من الاسطول سوي باخرة واحدة معطوبة بميناء بورتسودان منذ اكثر من عامين.
ولا يخالجني أدنى شك في أن متخذي القرار الكارثة بتصفية الشركة لا يدركون قيمتها ومكانتها المرموقة والسمعة الطيبة التي نالتها في عالم البحار والمواني حيث أن المنظمات العالمية التي ترعى الشؤون البرية مثل منظمة )الانكتاد( قالت في وصفها ما معناه )أنها شركة ناجحة ومتميزة على الرغم من صغر حجم أسطولها( ومنحتها درع التميز تقديراً لها كخط وطني منتظم ولالتزام بواخرها باشتراطات السلامة والمظهر بل حتى شركات )البوهيات( العالمية كانت تقوم بالترويج لأعمالها بدعوة عملائها للوقوف على مستوى خدماتها من خلال أعمال الطلاء لبواخر الخطوط البحرية السودانية، والتي كانت تلقب في المواني الأوروبية )بالخضر( فضلاً عن حصول أطقمها على ثقة الشركات والتجار في الحفاظ على سلامة منقولاتهم من التلف أو الفقدان أو التلاعب كما يحدث في كثير من بواخر الشركات الأخرى.
أما قمة التقدير والاحترام والإعجاب فقد تجلى في عزف السلام الجمهوري السوداني لبواخر الشركة عند دخولها المواني الأوروبية صاحب هذا القلم يشهد اللـه تعالى على كفاءة وتميز الشركة لا سيما في مجال عمليات الشحن والتفريغ وتحديداً تفريغ بواخر السكر – مجال عملي آنذاك لأكثر من عشرة أعوام متصلة 1976م – 1987م وتم تحقيق ملايين الدولارات للخزينة العامة كحافز سرعة تفريغ بدلاً من الغرامات الدولارية التي كان يمكن أن تتحملها الخزينة العامة في حالة تأخير التفريغ عن الزمن المحدد لكل باخرة كما هو معلوم في التعامل البحري..
إلا أنه للأسف العميق فإن سيف لجنة التصرف في مرافق القطاع العام لا يرى ولا يسمع ولا ينوي إنزال سيفه إلا بعد القضاء على كل مؤسسات القطاع العام الناجح منها قبل الخامل، من يحمي الخطوط البحرية السودانية الناقل الوطني من هذا السيف البتار؟!!
واللـه من وراء القصد