الأحد 8 أغسطس 2021 - 7:15

“تكلم حتى أراك”.. سقراط..!
في ستينيات القرن الماضي أنشأ – وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، والحاصل على جائزة نوبل للسلام – “هنري كيسنجر” ندوة هارفرد الدولية، وظل يديرها حتى مغادرته للجامعة، وكانت الندوة تستقبل في كل صيف أربعين شاباً من قادة الرأي والفكر في مختلف أنحاء العالم، يقضون نحو ستة أسابيع في أمريكا، يناقشون خلالها شؤون المجتمع الأمريكي وشجون العلاقات الدولية. وكان الهدف من كل ذلك أن يفهم هؤلاء الضيوف الولايات المتحدة الأمريكية فهماً أفضل، من خلال اتصالهم المباشر بقادتها ومفكريها في حوارات بنّاءة تنتفع بها جميع الأطراف..!
كان كيسنجر شخصاً فائق الذكاء، شديد الحيوية، وكان بارعاً في السخرية من الآخرين ومن نفسه أيضاً، وفي أذهان أولئك الشباب من قادة الرأي والفكر – الذين يمثلون مشارع حيّة لرجال السُّلطة في مستقبل بلادهم – شخصيةً كاريزميةً رفيعة المستوى، تستحق أن ترتقي إلى مراقي القدوة في شؤون الحكم والعلاقات الدولية، لكن د. غازي القصيبي كان له رأي آخر..!
في كتابه “الوزير المرافق” يقول القصيبي – الذي كان عضواً في ندوة هارفرد الدولية – إنه قد أصيب بخيبة أملٍ شديدة عندما أدار نقاشاً مع كيسنجر الذي كان ينظر إلى النزاع العربي الإسرائيلي من زاويةٍ واحدة هي زاوية الحرب الباردة، وبالتالي فقد كان سعيداً لأن جمال عبد الناصر “روسي الهوى” قد تلقى درساً قاسياً، وكيف أن بلاده لا ينبغي أن تتدخل لتنقذ عبد الناصر من نتائج حماقته. أما بقية الدول العربية فعليها أن تتخلّص من النفوذ السوفيتي قبل أن تطمع في تدخل الولايات المتحدة لحل قضية الشرق الأوسط..!
ثم دارت عجلة السياسة وذهب عهد عبد الناصر وجاء عهد السادات والتقى القصيبي بكيسنجر في مناسبةٍ أخرى، وسأله إن كان لا يزال عند رأيه بوجوب عدم تدخل بلاده في قضية الشرق الأوسط، وهل يعتقد أنه من المناسب التعويل على السادات. فكان رد كيسنجر دبلوماسياً “إنني لا أعرف سوى القليل عن شؤون مصر الداخلية، لماذا لا تخبرني أنت”. ولم يخبره القصيبي، وانتقل هو إلى الحديث مع ضيفٍ آخر..!
مات القصيبي قبل أن يقرأ آخر مؤلفات كيسنجر التي تضمنت رأيه حول حروب القارة الأفريقية وأزمة إقليم درافور التي نالت حظاً وافراً من الاهتمام الغربي والأمريكي في عهد حكومة الإنقاذ، ولم يشهد حديثه عن خصوصية هذه القارة التي ينبغي أن تنبع حلول مشكلاتها من الداخل، والتي لا تجدي معها نفعاً أي حلول مستوردة..!
الفريق عبد الفتاح البرهان أكد في حديثٍ له مع إحدى الصحف البريطانية أن عزلة السودان التي استمرت حوالي ثلاثين عاماً قد انتهت، وبحسب الصحيفة سلَّط الفريق البرهان الضوء على استعادة العلاقات الكاملة مع أمريكا وإسرائيل..!
صحيح أن عزلة السودان الدولية قد انتهت فيما يلي الأسباب الخاصة بحكومة السودان “من اندلاع الثورة إلى تكوين حكومة انتقالية تتبنّى نهجاً مُخالفاً لنهج حكومة الإنقاذ في إدارة البلاد، وتمثيلها دولياً على نحو أكثر انفتاحاً وحياديةً”، لكن تغيير الصورة الذهنية للمجتمع الدولي عن السودان شأنٌ جلَل يحتاج إلى خطط ومشاريع كثيرة، أولها وأولاها الاجتهاد في تعريف الآخرين بخصوصية مشكلات وكنوز هذا البلد الذي يقع بين فم قارة وذيل قارةٍ أخرى. ولتبدأ الحكومة بفكرة منتدى دولي يكون دورياً، بأفكار وأهداف استراتيجية، على غرار “ندوة هارفرد الدولية” التي تَفتَّقت عنها قريحة كيسنجر..!