الأربعاء 16 فبراير 2022 - 6:57

الخرطوم: أحمد طه صديق
ربما كان من غير المألوف أن تتسم العلاقات الأمريكية السودانية بالبرود والجفاء إبان الحقب المدنية الديمقراطية، بينما تكون في احسن حالتها في فترات حكم الأنظمة الدكتاتورية المغتصبة للسلطة غيلة في بلدانها وفي السودان خاصة، ففي فترتي حكم الفريق إبراهيم عبود الذي انقلب على الحكم المدني في نوفمبر من عام 1958م وحقبة حكم الرئيس جعفر نميري في فترة ما بعد 1971 وحتى سقوط حكمه الاستبادي عقب انتفاضة السادس من إبريل 1985م، كانت العلاقة جيدة بينهما وبين والولايات المتحدة، وكان هناك تعاون كبير بين الطرفين في عدة مجالات، في حين أنها اتسمت بالبرود إلى حد التجمد في فترة الحكم الديمقراطي ما بعد ثورة إبريل وسقوط حكم النميري إبان الحكومة الائتلافية التي ترأسها الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي التي شملت حزب الاتحادي الديمقراطي وحزب الجبهة الإسلامية قبل ينسحب من الائتلاف ليخطط للانقلاب على الحكم الديمقراطي بقيادة العسكريين والمدنيين في الحزب في الثلاثين من يونيو 1989م، حيث كانت الولايات المتحدة تدعم الحركة الشعبية بقيادة العقيد جون قرنق وترفض التوجه السياسي للحكومة الديمقراطية المتجهة تجاه إيران وليبيا، وتتخذ مواقف متشددة تجاه إسرائيل وترفض المحاور الأمريكية في المنطقة بقيادة مصر.
العلاقات في عهد البشير
شهدت العلاقات الأمريكية أسوأ حالاتها التاريخية مع السودان إبان حكومة الجبهة الإسلامية تحت قيادة التنظيم العسكري برئاسة عمر البشير، حيث اطلقت الولايات المتحدة جملة من الاتهامات اعقبتها بسلسلة متتالية من العقوبات، فكان اتهام السودان بالإرهاب ووضعه ضمن الدول الراعية للإرهاب في 1992م، واتهامه بالاستمرار في مساندة حركة التمرد بجنوب السودان، ثم أخذت الولايات المتحدة تحشد المنظمات الدولية والدول في ذلك الوقت ضد حكومة الجبهة الإسلامية، وتمثل ذلك في قرار الاتحاد الأوروبي بتجميد عضوية السودان ومخصصاته في اتفاقية لومي حتى 1991م، وتجميد عضوية السودان في صندوق النقد الدولي في 1994م، وقرارات مجلس الأمن (1044، 1054، 1070) بالإدانة والعقوبات عقب محاولة اغتيال الرئيس المصري بأديس أبابا 1995م واتهام السودان بالضلوع في تلك المحاولة. وظلت هذه العقوبات الاقتصادية منذ عام 1997م تجدد فى كل عام. وعلى الرغم من ان اتفاقية نيفاشا التى طبقت الحكومة آخر بنودها بالاستفتاء وتقرير المصير، كان احد الوعود التى اطلقتها واشنطون حال تنفيذ هذه الاتفاقية بأنه سيتم رفع العقوبات على السودان وعدم الابقاء على اسم السودان فى قائمة الدول الراعية للارهاب،، لكنها لم توف بوعدها حيث أن واشنطون ترى أن حكومة المؤتمر الوطني ــ رغم أنها سمحت بالاستفتاء الذي أفضى لانفصال الجنوب كدولة مستقلة ــ ظلت تدعم المعارضة المسلحة في دولة الجنوب، كما أن الحكومة لها سجل مروع في مجال حقوق الانسان.
العلاقات في عهد الثورة
منذ تفجر الانتفاضة الشعبية في ديسمبر 2019م اعلنت الولايات المتحدة ودول الغرب ترحيبها بالتغيير، وعندما تم تكوين الحكومة المدنية اعلنت دعمها لها وتعهدت بدعم التحول الديمقراطي في السودان.
وفي هذا الإطار تم إعفاء ديون السودان من الولايات المتحدة وبعض دول الغرب، واعطت الحكومة الإمريكية الضوء الأخصر للمؤسسات الاقتصادية الدولية لدعم السودان، فكان دعم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وتحريك مؤسسة التنمية العالمية (المعونة الأمريكية) لدعم السودان المستمر، وآخره زيارة المسؤول الأول فيها للسودان وتعهدها بتقديم دعم للسودان في حدود (700) مليون دولار لدعم مشروعات التنمية في البلاد.
العلاقات بعد (25) أكتوبر
وبعد خطوة قائد الجيش بإنهاء الشراكة مع الحكومة المدنية وتجميد عدة مواد من الوثيقة الدستورية وإعلان حالة الطورائ واعتقالات لرموز النظام المدني والناشطين في ظل انتفاضات شعبية ضد القرارات الموصوفة بالانقلاب، شجبت الولايات المتحدة الخطوة العسكرية، واعلنت ذلك عبر بيان وزارة خارجيتها قالت فيه: (تدين الولايات المتحدة بشدّة أعمال القوات العسكرية السودانية. ونحن نرفض بقوة حل الحكومة الانتقالية التي يقودها المدنيون والمؤسسات المرتبطة بها، وندعو إلى إعادتها على الفور. إن اعتقال رئيس الوزراء حمدوك وغيره من القادة المدنيين أمر غير مقبول، ويتعين على القوات العسكرية ضمان سلامة هؤلاء القادة وإطلاق سراحهم على الفور. إن من شأن هذه الإجراءات عرقلة انتقال البلاد إلى الديمقراطية وهي خيانة للثورة السلمية في السودان).
كما اعلنت الحكومة الأمريكية وقف دعم للسودان بقيمة (700) مليون دولار، وتوعدت بمحاسبة المسؤولين عن وقف العملية السياسية في البلاد.
ويلاحظ أن الولايات المتحدة في بيانها الأول أدانت بوضوح حل الحكومة ودعت إلى إعادتها على الفور، في حين أنها لاحقاً تجاوزت هذا التعبير الصريح وطفقت تدعو بشكل فضفاض لقيام حكومة مدنية، مما يعني أنها منذ وقت مبكر كانت ترى أن يكون للعسكريين دور مهم في معادلة الحكم بقيادة المكون العسكري الحالي، سيما بعد الضغوط الإسرائيلية على البيت الأبيض في اعقاب مد الحكومة الإسرائيلية جسور التطبيع مع القيادة العسكرية في السودان، وكذلك سعي الولايات المتحدة لإرضاء حلفائها في المنطقة العربية الذين يفضلون التعامل مع العسكر لأسباب تتعلق بالمصالح الاقتصادية والأمنية.
استئناف الدعم الاقتصادي
وفي خطوة متوقعة وإن كانت على الأقل مستبعدة الآن في ظل الانتقادات الأمريكية للعسكريين باستخدام العنف المفرط وقتل المتظاهرين السلميين، جاء في الأنباء أن الحكومة الأمريكية قررت استئناف دعمها الاقتصادي للسودان المخصص لهذا العام البالغ (700) مليون دولار، بعد مصادقة الكونغرس. وقال تقرير لموقع (ديفكيس): (إن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ستفعِّل استئناف دعمها بطريقة تتجاوز من خلالها الجيش في السودان). وأوضح أن الوكالة ستقوم ببرمجة صرف (108) ملايين دولار بهدف دعم نمو منظمات المجتمع المدني في جميع أنحاء البلاد من خلال توفير التعليم والتدريب المركز لتحسين تعزيزها وإعدادها للانتقال الديمقراطي السليم.
ولفت (ديفكيس) إلى أن ذلك يأتي بالإضافة إلى تمويل آخر لوسائل النقل لنقل المجموعات المحلية إلى الخرطوم، حتى يتمكنوا من المشاركة في الحوار المستمر، بما في ذلك الحوار الذي ترعاه بعثة الأمم المتحدة لمساعدة الانتقال السياسي في السودان.
وكشف الموقع الأمريكي أن الدعم يشمل تمويل أعمال حقوق الإنسان بما في ذلك ضمان توثيق الانتهاكات، وتعزيز وسائل الإعلام المستقلة، ودعم الاحتياجات الصحية وبرامج سبل العيش ذات الصلة بالزراعة.
ونقل عن نائب مدير شعبة السياسة والبرمجة بالوكالة، إسابيل كولمان، أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ستواصل تقديم المساعدة الإنسانية في السودان بحوالى (430) مليون دولار خلال السنة المالية 2022م.
وبالرغم من ان الدعم ذو صبغة إنسانية ولا يدخل في الخزانة السودانية مباشرة، لكنه يمثل كما يرى المراقبون خطوة نحو سياسة الولايات المتحدة الرامية للتقدم بخطوات بطيئة نحو اعترافها بالواقع الذي فرضته قيادة الجيش على سدة الحكم في البلاد بعد قرارات الخامس والعشرين من اكتوبر2021م، سيما بعد التحركات الإسرائيلية الحثيثة في التفاهم مع المؤسسة العسكرية والتفاهمات ذات الصبغة الأمنية وربما السياسية.
وتهدف الولايات المتحدة لتحقيق هذا الغرض بحث الحكومة الحالية على إحداث تحول نسبي في سياستها تجاه حقوق الانسان والحريات وعدم استخدام العنف تجاه المتظاهرين. ويرى المراقبون أن استئناف الدعم الاقتصادي يمثل سياسة الجزرة والعصا التي تنتهجها دائماً الحكومات الأمريكية، فهي ارادت أن تقول بطريقة غير مباشرة للحكومة إنكم إذا التزمتم باشتراطاتنا فلن يقتصر الدعم في المرة القادمة على الصعيد الإنساني عبر المنظمات، إذ أن الولايات المتحدة بحسب ادبيات سياستها العامة ووجود اصوات في الكونغرس ترفض استمرار سياسة العسكر الحالية في السودان، فإن ذلك يجعلها تسعى الى التوفيق ومحاولة إيجاد معادلة تبقي شراكة العسكر في الحكم بمشاركة مدنية مكونة من حكومة كفاءات رغم رفض الشارع الثوري لها، حتى الوصول للانتخابات بعد انتهاء الفترة الانتقالية التي من المتوقع أن ترسم خريطة سياسية مدنية مدعومة من العسكر وتيارات مناهضة للتيار الراديكالي الثوري وكذلك للإسلام السياسي، وتمثل فيها رموز من الحركات المسلحة بعد إجراءات الترتيبات الأمنية والدمج، حيث من المتوقع أن تجرى انتخابات رئاسية تطمع للوصول لقمة سدتها قوى نافذة في المعادلة السياسية الحالية.