الأحد 27 فبراير 2022 - 15:33
 

كتب / بدر الدين العتَّاق

 

 كنت قد طرحت استيضاحاً مهماً للغاية لإبداء الرأي وموضوعية المناقشة في بعض المواقع الإسفيرية بغرض الإلمام بمعلومات عامة فيما يتعلق بقضية الإسراء والمعراج ثم أضفت الآن قضية الوحي فيما أشكل مؤخراً على بعض الباحثين ومنهم شخصي الضعيف للبحث عن نقطة تلاقي مقنعة تتماشى مع روح النص القرآني المنصوص بها العنوان عاليه وكانت صيغة التساؤل بالصورة الآتية :

السؤال

كيف تم المعراج النبوي الشريف فيما يتعلق بآيات سورة النجم عِلماً بأنَّ السورة نزلت ( قبل المعراج نفسه) في السنة الخامسة من المبعث النبوي الشريف من مكة إلى المدينة حال قرنتها بالإسراء هذا إذا كانت هناك ثمَّة علاقة بين آياتها الأولى وبين الحادثة ذاتها ( أي : الإسراء ) التي لم تذكر المعراج أصلاً .

  سورة الإسراء من السور المكيّة التي نزلت آياتها في مكَّة المكرَّمة قبل إخراج النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المدينة المنورة، وكان ذلك في السنة الحادية عشر من البعثة أي قبل الإخراج بقرابة السنة والشهرين، وعدد آياتها مئةٌ و أحد عشر آية ، إذاً كيف تمَّ الإسراء والمعراج في ليلة واحدة والسورتين نزلتا متفرقتين بسنوات طويلة ( سبع سنوات تقريباً ) مع العلم أنَّه فيزيائياً يُمتنَع الانتقال جسداً أو وروحاً أو الاثنين معاً ( لفظة " بعبده ليلاً " المرجع السابق؛ حيث الخلاف والاختلاف موضع التساؤل المطروح ) من مكان إلى مكان آخر في ذاتية الزمن ( الزمكان ) الواحد ؛ وأن سورة الإسراء نزلت بعد سورة النجم بستة إلى سبعـــــــة سنوات ولم تذكر المعراج أصلاً ؟.

  راجع تواريخ نزول السورتين من النت والمراجع ذات الصلة ثم أجب على السؤال المطروح فضلاً وحبذا الإجابة دون الدخول في تفاصيل المعتقد إذ هي خاضعة لعملية علمية؛ ولا تخضع لعملية إيمانية بالتسليم للقدرة الإلهية في هذا الموضع بالتحديد مع إيماننا التام بالإرادة الإلهية بلا شك ! .

هكذا كان التساؤل المطروح ، ولم أحظ بالقناعة من التداخلات لبُعدها من المستوى المطلوب وقوقعتها على المستوى العقل الجمعي العام للناس والإيمان بالخوارق والمعجزات وخلافه .

في هذا البحث أو هذه الكلمة نقرأ معاً ما يقوله العرفان في حقيقة قضية الإسراء والمعراج والوحي ، وأنا ذكرت الوحي هنا لأنَّه المفتاح الذي نعرف به علمياً أو روحياً العلاقة بين المثلث أعلاه لفض التعارض والخلاف حول حدوث الإسراء والمعراج من عدمه والكيفية التي تمت بها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً من التوضيح بمشيئة الله تعالى .

محور البحث

قال تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) } سورة الإسراء ، وقال تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) } المصدر السابق ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)  } سورة الشورى .

لاحظ : الآيات أعلاه لا يوجد فيها دلالة على معراج أو عروج ولا سورة النجم كذلك موضوع التمويه الفكري في كيفية تمامة الأمر عروجاً أو مسيراً ، فالغالبية العظمى من المفكرين والباحثين قرنوا ما بين سورتي الإسراء والنجم في آياتها الاولى ، ولن أذكر الخلافات فيها وعنها فهي مبذولة للجميع ، لكن دعني أقرر أمراً مهماً جداً هو :

  إنَّ الإسراء والمعراج لم تحدثا مرة واحدة ولا في ليلة واحدة ولا علاقة بسورة النجم هنا بالمعراج لا من قريب ولا من بعيد لكن التي لها علاقة مباشرة وقرينة ملزمة للباحث الفاهم عن الله من القرآن يجد العلاقة بينهما مع سورة الشورى بعامة الآية التي صدَّرت بها محور النقاش بخاصة ، لأنَّ حقيقة الإسراء والمعراج والوحي في الأصل هي واحدة ثابتة لا تختلف من موضع لآخر إلا من حيث التعريف والمشاهدة لكن الكيفية هي ثابتة وهي المذكورة في الآية ستين من سورة الإسراء ، قال تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) } الرؤية المنامية لا غير .

 ربَّ قائل يقول وهو عجلان أنَّ ما قررته خطأ كلياً ! وهو على صواب من الوهلة الأولى لكن مع التأني والتدبر يجد نفسه هو المخطئ لا أنا وهذه ليست فلسفة ولا فذلكة لا ولا غرو ! لكنها عرفانياً تقول بذلك ، والعرفان هو ما وراء طبيعة الأشياء الميتافيزيقية ، الوحي كله عبارة عن رؤية منامية لا أكثر ولا أقل وأنا لم أقل بذلك ضربة لازب بل القرآن هو الذي قرَّر الأمر فقال من سورة الشورى والإسراء ما قال بأنَّ الأمر رؤية منامية عرفانية ليرى صاحبها من الآيات ما شاء الله له أن يرى بالنسبة للقرآن عموماً وبحالتي الإسراء والمعراج تحديداً ، وأنا لا أتكلم هنا عن المَلَك جبريل وكيف يأتي النبي ، عليه السلام بالقرآن ، فهذا ليس موضعه من الشرح وسأتعرض له لاحقاً إن شاء الله .

في آية الشورى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) } فيما يتعلق بكلام الله للبشر بإحدى صور ثلاث أو كلهم مجتمعين في غير مراد معين وهنَّ :

الصورة الأولى ، الوحي ، والوحي هو الإلهام يقظة أو مناماً رؤيا يراها الرائي حين يرى ما شاء الله له أن يرى ليحدث الناس بها أو لخصوية يريها الله له .

 الصورة الثانية ، من وراء حجاب ، وأكبر حجاب اليوم وأمس وغداً هو حجاب العقل ريثما يدرك ، وموضوعنا هو هذا الحجاب الكلامي من بديهيات طبيعة الأشياء والأحياء تمهيداً للعقل الغائب أن يحضر بحكم الوقت ، والعقل حجب عنَّا طيلة الخمسة عشر قرناً معرفة حقيقة الإسراء والمعراج لعدم أهليته بعد وكان ما كان من خلاف واختلاف بمثابة التوعية والترشيد والاستعداد للمعرفة فيرى ما كان غائباً بالأمس اليوم وبصورة أشد وضوحاً بفضل الله ثم بفضل تطور العقل الذي حجب عنَّا المعرفة بالأمس ، وما يُقال هنا عن الحجاب ، يُقال لمن يأتي بعدنا فيفتح الله البصائر والأبصار لمن استعد منه المكان للتلقي وهكذا دواليك .

الصورة الثالثة ، إرسال الرُّسُل فيما أوحى لمن أوحيَّ إليه فيرشد الناس ويهديهم ويعينهم على الصلاح والرشد ويبين لهم طريق الهداية والمعرفة وهو المشاع عند الرسل ولا يقف عندهم بل يتخطَّاهم بنص الآية : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)  } فكلام الله خاص وعام لمن يشاء .

ولك أن تلاحظ تثبيت كلمة " وحي " بين  كلمة " وحياً " و " أو من وراء حجاب " ، " فيوحي بإذنه ما يشاء " ، فكلام الله وحي للنحلة كما هو للنملة كما هو للبشر ولسائر الخلق أجمعين .

الإسراء لم يحدث مرة واحدة في حياة النبي وكذلك المعراج ، بل يحدث له في كل لحظة وحين من مولده إلى انتقاله باعتباره وحي يوحى كما في سورة النجم : " إن هو إلا وحي يوحى " فالمعراج داخل في الإسراء بغير كيفية معينة ولا زمن محدد ولا مكان بذاته لأنَّ الوحي لا يتقيد لا بالزمان ولا بالمكان ولا بالكيفية فهو من سعة الله بمكان لذا قلت فيزيائياً لا يمكن حدوثه فالعلمية هنا تسقط تماماً من هذا الجانب ، ومن ناحية ثانية : إذا تحرك أي جسم خارج إطار الجاذبية الأرضية أو الجاذبية الكونية فإنَّه يخضع لعوامل التغيير التكويني / راجع المراجع ذات الصلة فيزيائيا من وكالة ناسا للفضاء ونظرية آينشتاين النسبية في الفيزياء / وهذا الأمر لم يحدث لمحمد ،عليه السلام ، إذ لم يتغير حجمه ولا وزنه ولا كثافته ولا هم يحزنون وكل ما في الأمر استقبل الأمر التأهيلي التكويني بالاستعداد التشريعي في سويداء قلبه كما أخبر عنه القرآن حين قال من سورة النجم : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) } ، فالقلب هو محل التلقي الإلهي لا العقل حيث العقل يعقل بالضدية والثنائية الشفعية والقلب يدرك بالوترية الفردية لسعة المحل بالتلقي تأهيلاً ، فالمُوحَى إليه يرى بقلبه لا بعقله محل الخيال والحدس والظن والتخمين والتقريب ، إذ القلب محل اليقين القطعي الوتري الذي لا يخالجه مثقال ذرة من شك أو وسوسة أو خاطرة ، بل يقين محض .

ما رءاه النبي محمد في أعلى قمة بشرية من الإدراك الوتري يُعدُّ نموذجاً في الإيحاء لمن يشاء ربنا ويرضى لمن هو بعده أو غيره إذ ليست محصورة في الذات النبوية كما يفهم البعض ، وليرى من قدرته المطلقة ما يريد لأي بشر كان من نص الآية السابقة ، فيرى الرائي عروجاً إلى السماء حيث الإطلاق أو مسيراً على الأرض حيث الامتداد من الآيات ما قُدِّر له أن يرى ويشهد ويسمع ويلتقي ويلقى ويتلقَّى في المنام كيفما اتفق .

المعراج يدخل في الإسراء من حيث الرؤية المنامية التي هي الوحي بأحد صوره الثلاث المذكورة في سورة الشورى كما بيناه ، فيكون الثالوث : الإسراء والمعراج والوحي ، أمرٌ واحد في مستويات ثلاث لا غير .

نموذج ثاني

يحدثنا القرآن تمهيداً لقبول فكرة الوحي منامياً أو يقظة أو الاثنين معاً فيما يلقيه الله عز وجل في قلب من يريد ويشاء لأمر كان أو سيكون أو كائن حين يضرب مثالاً حياً ومباشراً لا خلاف عليه وهو رؤية يوسف النبي فيما يحكيه الله في سورة يوسف من تحقيق رؤياه عياناً بياناً أول السورة وتأويله / أي : يوسف ، عليه السلام ، / لمن رأى رؤية منامية فأوَّلها له فيما بعد ، قال تعالى من سورة يوسف : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) } أحسن القصص هنا الوحي من طريق المنام وكيفية تحقيقه على أرض الواقع معاشاً ومصدقاً لا مِرية فيه ولا فِرية .

قال عز وجل : { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) } .

وقال جلَّ من قائل : { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ } .

وقال سبحانه الولي القدير : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ  أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) } المصدر السابق .

  إذاً ! قدَّم الله عز وجل كيفية كلامه للبشر من طريق الرؤية المنامية أحد الصور الثلاث المذكورة في سورة الشورى ، وحققها عملياً وتطبيقاً على أرض الواقع وصارت سيرورة بين الناس إلى يوم يبعثون فكيف هالنا ما كان من أمر محمد - عليه السلام - من ذات الكيفية الروحانية المنامية ؟ .

 في الحديث يقول - عليه السلام- : [« إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ ». ] أخرجه مسلم في الصحيح ، ويقول أبو الحسن الشاذلي حين همَّ بمعرفة الحديث فرأى النبي في المنام فقال لأبي الحسن : [ غين أنوار لا غين أغيار ] والغَيْنُ هي الغفلة أو السكينة أو الاستكانة عن الحضور فيغفل ، وهنا يخبرنا بأنَّه دائم الحضور فلا تجد الغفلة إلى قلبه سبيلاً وهو محل قولنا سابقاً بأنَّ الإسراء والمعراج وحياً منامياً لم يحدث مرة واحدة في عمره صلوات ربي وسلامه عليه بل طيلة حياته في كل أوقاته وسائر أعماله في معاشه وكل أموره في اليوم أكثر من سبعين مرة ، ويقول في موضع آخر : { أنَّه سَأَلَ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها - أي : الراوي - وهو بن دقيق العيد : كيفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في رَمَضَانَ ؟ فَقالَتْ : ما كانَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَزِيدُ في رَمَضَانَ ولَا في غيرِهِ علَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً؛ يُصَلِّي أَرْبَعاً، فلا تَسَلْ عن حُسْنِهِنَّ وطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعاً، فلا تَسَلْ عن حُسْنِهِنَّ وطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثاً. قالَتْ عَائِشَةُ : فَقُلتُ : يا رَسولَ اللَّهِ، أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقالَ: يا عَائِشَةُ، إنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ ولَا يَنَامُ قَلْبِي } البخاري .

الإسراء والمعراج علمياً

كتب الأستاذ / د . كارم السيد غنيم ، أستاذ بكلية العلوم جامعة الأزهر وأمين جمعية الإعجاز العلمي للقرآن والسنة في موقع الإعجاز في القرآن بالأنترنت بتاريخ : ديسمبر/ 2019  ، قال :

[ أدمج آينشتاين المكان والزمان في نظرية النسبية الخاصة عام 1905م، وأعلن أنه : ( ليس لنا أن نتحدث عن الزمان دون المكان، ولا عن المكان دون الزمان، ومادام كل شيء يتحرك فلابد أن يحمل زمنه معه، وكلما تحرك الشيء أسرع فإن زمنه سينكمش بالنسبة لما حوله من أزمنة مرتبطة بحركات أخرى أبطأ منه).

 ولقد تحققت ظاهرة انكماش الزمن علمياً في معامل الفيزياء، حيث لوحظ أن الجسيمات الذرية atomic particles تطول أعمارها في نظر راصدها إذا ما تحركت بسرعة قريبة من سرعة الضوء وعلى سبيل المثال؛ يزداد نصف العمر لجسيم البيون ( نصف العمر هو الزمن اللازم لينحل هذا الجسيم إشعاعياً حتى يصل إلى نصف كميته ) في الساعة المعملية الأرضية إلى سبعة أمثال قيمته المعروفة إذا تحرك بسرعة قدرها 99% من سرعة الضوء.

وطبقا لنظرية آينشتاين، فإننا إذا تخيلنا أن صاروخاً اقتربت سرعته من سرعة الضوء اقتراباً شديداً، فإنه يقطع رحلة تستغرق خمسين ألف سنة ( حسب الساعة الأرضية ) في يوم واحد فقط (بالنسبة لطاقم الصاروخ)!! وإذا فكرت في زيارة أطراف الكون فإنك ستعود إلى الكرة الأرضية لتجد أجيالاً أخرى وتغيرات كبيرة حدثت على هذا الكوكب الذي سيكون قد مر عليه حينئذ آلاف أو ملايين أو بلايين السنين بحساب أهل الأرض الذين لم يخوضوا معك هذه الرحلة المذهلة، وذلك إذا كنت قد تحركت في رحلتك بسرعة قريبة من سرعة الضوء !! وخلاصة القول : إن الزمن ينكمش مع ازدياد السرعة، وتزداد السرعة مع ازدياد القدرة على ذلك ] انتهى .

ما يهمني في هذه المقدِّمة لا رأي الدكتور لاحقاً من المقال الذي قدَّمه ، بل يهمني الرأي العلمي الذي رفضه آخر الأمر مثله مثل أصحابنا في السوشيال ميديا بأن أرجعه للإيمان بالله والتسليم له ، وإن كان الذي هرب منه هو عين ما وجب فهمه باستحالة حدوثهما علمياً ، ولن يتبقى غير الجانب الروحي في المنام ، ولا أدري لماذا يصر أغلب الناس على أنَّها معجزة حين لم ينسبوا ذات المعجزة / إن هي كذلك / إلى سيدنا يوسف ، عليه السلام،  فهو أحق بها من محمد قياساً لحكم العقل والوقت لكليهما، ولا يقبلون بكونها رؤية منامية أخبرهم بها الله تعالى ، فحين تعرض القضية على العقل يرفضها العقل وحين تعرضها على الإيمان والتسليم بالله يرفضها العقل ويقبلها القلب وحين تعرضها عليهما معاً يقولون لك بأنَّها معجزة ، وليست معجزة إنَّما المعجزة الحقَّة هي القرآن ذاته كلام الله للبشر .

قال تعالى : { أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) } سورة الإسراء ، وموضع الشاهد هنا : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا } فيمتنع علمياً بالنص القرآني لاختلاف الخواص والمهام الرسالية والتكوين التشريعي الخَلقي والتكوين التكويني .

رجع الحديث

مما سبق ، لا يجدي أن نقارن تسبيب نزول السورتين من عدمه لا في الفارق الزمني بينهما ولا في الكيفية ولا في الموضوع ولا في اختلاف المكانين في الزمن الواحد ولا أن نتعرض للخلاف القائم منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا جملة وتفصيلاً ، فمن تأمَّل القول وتدبره وجد أن لا تعارض ولا خلاف في حدوث المعراج منفصلاً عن الإسراء ولا حدوث الإسراء منفصلاً عن المعراج ولا حدوثهما معاً في وقت واحد لمكانين مختلفين بعيدين جداً أحدهما في السماء عن الوحي ، قال تعالى : ( وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ) سورة النجم ، والآخر في الأرض { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) } سورة الإسراء ، في وقت واحد { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) } سورة الشورى ، حتى لا نخضعه للقياس العلمي العقلي الممتنع ، فكل ما حدث هو رؤية منامية ( وحدة واحدة : وحدة زمانية في وحدة مكانية في وحدة ذاتية ) لم تنقطع حيثياتها علماً ورؤيةً لمراد الله تعالى حيث شاء وأراد منامياً مع قبول فكرة الوحي مسرىً ومعراجاً لكليهما من طريق الرؤية المنامية وحياً يوحى في وقت واحد لمكانين مختلفين جداً فلا يخضع الأمر لنظرية آينشتاين ولا إلى نسبيته بل يشجع على التحصيل المعرفي من طريق تدبر القرآن لنحظى جميعاً بغيان الأنوار لا غيان الأغيار لكل البشر دون استثناء لمن رضيه ربه بذلك .

خاتمة

 أختم كلمتي هذه وفي النفس بقية من الأمر لم أقله بعد ( كلمة : " بعبده " من سورة الإسراء تفيد كل البشر ولا تحصرها في الذات النبوية وإن كانت الذات النبوية هي أعلى قمة ونموذجاً لحدوث الحادثة المتكررة على مدى الزمان والمكان ) عسى أن يمد الله في الآجال فأقوله أو أزيده إن شاء الله / راجع كلمتنا عن الوحي لاحقاً / ، قال تعالى : [ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) ] سورة النجم .