الخميس 17 مارس 2022 - 18:47

الخرطوم: أحمد طه صديق
فاجأ حزب سياسي يدعى )حزب بناء السودان( بمقترح دعا فيه إلى ما سماه )توفير ضمانات بعدم اتخاذ أية إجراءات قضائية ضد أعضاء المجلس العسكري الانتقالي والمكون العسكري في مجلس السيادة وقادة الجيش بصفتهم الاعتبارية(. وإن كان الاقتراح غير جديد لدى بعض النخب السياسية، لكن ربما الجديد هو الإفصاح عنه بشكل مباشر من ضمن ما اعتبره الحزب خريطة طريق لاستعادة الديمقراطية بحسب ما جاء في )سودان تربيون(، كما اقترح توسيع مجلس السيادة برئاسة القائد العام للجيش. وخلص إلى أن التسوية مع قادة الجيش من متطلبات تحقيق متطلبات التحول الديمقراطي المستدام.
لكن بعيداً عن المقترح المشار إليه الذي حوى نقاطاً غير متفق عليها، سنحاول عبر هذه المساحة عرض جدلية منح الحصانة وفق تجربة سودانية سابقة وأخرى دولية وإقليمية.
عبود حصانة بعد ثورة عارمة
بعد اندلاع ثورة اكتوبر الشعبية التي مثلت أولى الثورات الجماهيرية في المنطقة واقتلعت نظاماً قابضاً وسقط فيها عشرات الشهداء والجرحى، عندما انفلت لجام السلطة من الفريق إبراهيم عبود رئيس المجلس العسكري الأعلى الحاكم، وافق على الجلوس من وفد القيادات الحزبية وبعض النخب للتفاوض، حيث أعلن موافقته على التنازل من السلطة شريطة أن يمنح هو ومجلسه العسكري حصانة دائمة من المساءلة القضائية، وتمت الموافقة على طلبه، حيث قام بحل مجلسه الحاكم لتتسلم بعده حكومة انتقالية مدنية واجهت بعض الصعوبات، لكنها في النهاية تمكنت من عقد انتخابات ديمقراطية نزيهة.
ولم يعترض أي من الأحزاب السياسية على اتفاق منح الحصانة بما فيها الأحزاب الراديكالية، رغم سقوط عدد من الشهداء سقطوا في ساحة القصر الجمهوري التي سميت آنذاك ساحة الشهداء.
حصانة روسية
في عام 2019م قر مجلس النواب الروسي )الدوما( مشروع قانون من شأنه منح الرؤساء السابقين حصانة لدى مغادرتهم سدة الرئاسة، باستثاء الرئيس الأسبق ميخائيل جورباتشيف.
والتشريع الذي نشر على الموقع الالكتروني لمجلس الدوما من بين تعديلات دستورية تمت الموافقة عليها في استفتاء على مستوى البلاد، ويتيح للرئيس فلاديمير بوتين الترشح لولاية جديدة عندما تنتهي ولايته الرابعة في 2024م.
ويمنح القانون في حال المصادقة عليه، الرؤساء السابقين وعائلاتهم حصانة من المحاكمة لجرائم ارتكبونها خلال حياتهم، كما سيمنحهم حصانة من التفتيش والاعتقال والاستجواب.
لكن مع ذلك القانون يمكن نزع الحصانة عن رئيس سابق في حال اتهامه بالخيانة أو بجرائم خطيرة أخرى، ويتعين تأكيد الاتهامات في المحكمتين العليا والدستورية، ثم يتعين على مجلس البرلمان تأييد الإجراء بتصويت غالبية الثلثين.
مجلس لبناني لمحاكمة الرؤساء
يتألف من المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء في لبنان من سبعة نواب )يتم انتخابهم بالاقتراع السري وبالغالبية المطلقة من مجموع أعضاء المجلس النيابي الـ 128(، وثلاثة نواب آخرين احتياطيين، بالإضافة إلى ثمانية قضاة من أعلى القضاة رتبة بحسب درجات التسلسل القضائي أو باعتبار الأقدمية إذا تساوت درجاتهم وثلاثة قضاة احتياطيين، بحسب المادة )80( من الدستور اللبناني.
من يحاكِم المجلس الأعلى؟
ويقول الخبير الدستوري عادل يمين إن المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء منصوص عليه في الدستور اللبناني كمحكمة خاصة من أجل محاكمة الرؤساء والوزراء.
ويتولى المجلس الأعلى محاكمة رئيس الجمهورية بالجرائم العادية التي يرتكبها أو بالخيانة العظمى أو خرق الدستور، ويُتهَم أمامه رئيس الوزراء والوزراء بجرم الخيانة العظمى والإخلال بالواجبات المترتبة عليهم أو خرق الدستور.
مفهوم الحصانة
ويشير خبير قانوني في إحدى الدوريات العربية الى مفهوم الحصانة للرؤساء قائلاً: )يتمتع رؤساء الدول بحسب الأنظمة القانونية الداخلية بحصانة ضد المسؤولية الجزائية، والتي تختلف في مداها لتتأرجح بين الإطلاق والتقييد، وذلك تأثراً بطبيعة النظام السياسي لكل دولة، فبعد أن كانت الحصانة تجد مصدرها في حرمة ذات الملك في الأنظمة الملكية، وما ترتب على ذلك من تأكيد لقاعدة لا لمسؤولية الملك المطلقة، وإنكار لمبدأ المساواة، أصبحت الحصانة ضرورة تفرضها مقتضيات الوظيفة لأجل الأداء الفعال لها، خاصة ببروز ضرورة الموازنة بين فرضين واللذين يقتصران على حماية الوظيفة الرئاسية عن طريق تقرير الحصانة الموضوعية في الجانب الأول وضمان عدم إفلات رؤساء الدول من المسؤولية الجزائية، وذلك دون الإخلال بالحصانة الإجرائية في الجانب الثاني، لتتقرر بذلك الحصانة النسبية لرئيس الدولة في الأنظمة الجمهورية، والتي يجب أن تستند إلى حجج مشروعة، وإلا اعتبرت خروجاً وخرقاً لمبدأ المساواة.
الحصانة الأمريكية
يقول الكاتب القانوني جابر غنيمي عن حصانة الرؤساء في الولايات المتحدة: )إن الدستور الأمريكي الصادر في عام 1785م يمنح حصانة للرئيس من أية مساءلة، وهو ما نصت عليه كذلك الدساتير الجزائري والعراقي والليبي والسوري واغلب دساتير العالم(، ويشير الكاتب إلى أنه بمجرد انتهاء فترة الرئاسة تنتهي الحصانة لأنها مؤقتة.
الواقعية والتفريط
لكن في ما يتعلق بمقترح حصانة عدم مساءلة قادة المجلس العسكري، فإن الأمر يعتبر مثار جدل كبير، فالثوار وعدد كبير من التيارات السياسية يعتبرون أن تلك الخطوة تشكل خيانة لأهداف الثورة الرامية إلى تحقيق العدالة وعدم الإفلات من العقوبة، ويحملون قادة العسكر مسؤولية كل دماء الشهداء التي أريقت وهم يمارسون حقاً أصيلاً في التعبير السلمي.
في حين يعتبرها البعض الآخر حلاً واقعياً يجنب البلاد سفك الدماء ويدفع البلاد إلى مآلات غير معلومة، كما يقطع الطريق نحو تحقيق التحول الديمقراطي السلس والآمن، ويشيرون إلى تجربة منح الفريق عبود ومجلسه العسكري صكاً بعدم المساءلة رغم عشرات الشهداء الذين سقطوا في المواكب السلمية، الأمر الذي ادى إلى حقن مزيد من الدماء ومهد الطريق نحو التحول الديمقراطي المدني، لكنهم يرون أن تلك الخطوة لا يمكن أن تمنح صكاً أبيض دون ثمن، فإذا ما تمت تلك التسوية فلا بد أن تتم في إطار وثيقة دستورية تمنح رئيس الوزراء المتفق عليه حق الإشراف المباشر على كافة الأجهزة الأمنية، وأن يصبح القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأن تكون كل الحكومة مدنية خالصة تبسط فيها سيادة القانون على الجميع، وتحقيق العدالة والشفافية وبسط الحريات دون قيود قانونية معيقة، وعندها فقط تصبح ثأرات القصاص قرباناً رخيصاً لتحقيق تلك الأهداف الوطنية المهمة في بلد تحاصره الرياح من كل جانب، ويكابد فيه أهله مشقة الحياة وتعذر لقمة العيش، ويرون أن تلك التسوية هي التي تقطع الطريق على الانتهازيين ولصوص الثورات والمغامرين الذين يخططون لمسار يجلسهم على سدة الحكم عبر انتخابات مضروبة.