الأربعاء 15 يونيو 2022 - 11:13
منى أبوزيد تكتب : أبحث عن المعنى..!


“الإنسان يعلو على الإنسان بالبحث عن المعنى”.. مصطفى محمود..!
)1(
كان لوالدي – الذي قَدِم إلى مدينة عطبرة من قرية “أوربي” بشمال السودان – صديق وزميل مهنة وشريك مسكن، كان قادماً هو أيضاً من قرية تقبع في الضفة الغربية لنهر النيل. وكان المُعلِّمان الشابان قد اتفقا ذات يوم على شراء زجاجة عطر من محل “الطير الأبيض” الذي كان متجراً ذائع الصيت بمدينة عطبرة. ولأن أهل القرى في بلادنا كانوا يطلقون كلمة “بخاخ” على كل صنوف العطر فقد طلبا من صاحب المحل أن يبيعهما “بخاخاً”، ففعل الرجل بكل سرور. وفي الصباح وهما يستقبلان يوماً صحواً سارع والدي وصديقه إلى إكمال هندامهما بنفحاتٍ من ذلك العطر الجديد، ولم تُثنهما تلك الرائحة النفاذة التي كانت تختلط ببعض العبير عند “البخ”، فظلَّا ينثران الرذاذ المُعَطَّر على ملابسهما حتى خَرَّ بعض الذباب صريعاً تحت أقدامهما. ألقيا نظرةً فاحصةً على زجاجة البخاخ وضحكا بشدة عندما فجأتهما جملة “قاتل الحشرات المُعطَّر” التي كانت مكتوبةً عليها بحروفٍ إنجليزيةٍ أنيقة. لقد شَغَلَهما التفكير الرَّغائبي – باقتناء بعض العطر – عن قراءة المكتوب على علبة البخاخ تلك، وصرفهما اعتيادهما على إطلاق كلمة “بخاخ” على كل زجاجة عطر عن التفكير باحتمال أن لا يفهم البائع مقصدهما فيبيعهما شيئاً آخر. في بعض منعطفات الحياة نحن نحتاج دوماً لقراءة ثانية لذات الجمل المكتوبة على بعض المواقف عَلَّنا لا نرى ما كنَّا نَتَوهَّم – أو نتوَسَّم – إننا نراه بوازعٍ من تفكيرنا الرغائبي..!
)2(
طبيب وأكاديمي مرموق كان قد اختار في شبابه أن يستثمر علمه في جامعة ذائعة الصيت بإحدى الدول الأوروبية، ثم مرَّت الأيام وتعاقبت الفصول على هجرته تلك حتى أدركته الكهولة. وفي إحدى زياراته للخرطوم دخل على أحد زملاء مهنته في مقر عمله، فوجده يشمر عن ساعديه وهو يهم بتناول إفطاره البلدي “عصيدة الذرة وملاح الويكاب”. بعد السلام و”المطايبة” دعاه صديقه إلى أن يشاركه الطعام فتمنَّع قليلاً قبل أن يهجم بأصابعه على العصيدة اللذيذة. دارت دوائر “الونسة” واستقر بها المُقام في أوان عودته النهائية إلى البلاد، وبينما كان يفكر في تجميل الأسباب سقطت بضع قطرات من “الملاح اللايوق” على ربطة عنقه الأنيقة التي كانت باهظة الثمن، فما كان منه إلا أن صاح مخاطباً جليسه في حَنَقٍ عظيم “ما داير أرجع عشان جنس ده”!. بعض مواقف البشر الخطائين لها أسباب حقيقية يعمدون إلى تغليفها بأسباب أخرى “وجيهة”. تلك الأسباب لا تخضع عادةً لدقة التحليل إن هي لم تبرح إطارها الاجتماعي العفوي، لكن تصريحات السَّاسة لها شأنُ آخر مع ردود فعل المراقبين وخُلاصات المحللين، ليس لشيء سوى أنها تتحول بعد النَّشر إلى شأنٍ عام، حتى وإن كانت لحظة غضب من وقوع قطرة “مُلاح” على ربطة عنق..!
)3(
في إحدى ساعات الظهيرة – المختنقة بدلال المركبات العامة وازدحام الركاب – توقّفت إحدى الحافلات وتدافع الواقفون كعادتهم وكلُ يمني نفسه بمقعدٍ شاغر. أحد الصبية “المشردين” الذين يعج بهم المكان اندفع بسرعة صاروخية ونجح في حجز أحد المقاعد فتعالت بعض الأصوات في احتجاج خوفاً من حادثة “نشل” وشيكة قد يكون ضحيتها أحد الركاب، وأمسك الكمساري بخناق “المشرد” قبل أن يتدخل بعض العقلاء لإنهاء الشجار. وبينما هم على حالهم ذاك قفز إلى الحافلة مشرد آخر كان يمسك بذراع شابة كفيفة، علم الركاب من سياق الحدث أن المشرد الأول كان يزاحمهم لكي يحجز لها مقعداً. فأطرق معظمهم في خجلٍ بالغ من قصور بصائرهم عن مجاراة بصيرة الشابة الكفيفة التي حكمت على أولئك الصبية المشردين بإحساسها فأسلمت أمرها إليهم، بينما عجزت أبصار بقية الحاضرين عن أن تتجاوز الأسمال البالية والأبدان المتسخة إلى رحابة الانتماء الإنساني الجليل..!