الخميس 22 سبتمبر 2022 - 18:38
(1)

 بقدر التقصير الذي نشعر به نحو هذا الوطن والقصور من المسؤولين والسياسيين في حق هذا الوطن فان ما يقوم به المبدعون والفنانون في حب هذا الوطن يفوق كل التخيلات ويضمد في نفوسنا الجروح ويشفي ما بنا من وجع لهذه البلاد الطيب اهلها.

 نتحدث عن سلبيات كثيرة وإخفاقات وتجن على هذا الوطن تدعو الى الاحباط والاكتئاب ونحن نتحدث في السياسة والغلاء والطحن اليومي لرقاب المواطنين .. ولكن عندما نتحدث عن المبدع السوداني نقف اجلالاً واحتراماً وتشرئب رقابنا عزة بهم وتضيئ جباهنا من نورهم ونشعر اننا يجب ان نفعّل نمط (القفز) لنتقافز فرحاً بهذا الوطن العظيم الذي سوف يبقى فينا وان حملناه (حفنة تراب) في صرة منديل… او دفنا على ترابه مجرد (رفات).

 لا توجد مسافة تجمع بين البعد والقرب في آن واحد بقدر تلك المسافة التى اخترع قانونها ادريس جماع (انت السماء بدأت لنا واسعتصمت بالبعد عنّا).. لقد ترك جماع بهذا المقطع كل شعراء الغزل والعربية بصورة عامة يسقطون في مادة (الاشواق) ، عزلهم من قدراتهم الابداعية… كما اني لا اعرف حسبة اكثر عبقرية من تلك الحسبة التى اكتشفها السر قدور في حضرة الوطن (شمسك طلعت وأشرق نورها بقت شمسين) ، هذا لا يحدث إلّا في السودان، وللدوش في مآسي الحسرة والوجع والبحث المضني هذا العنوان الذي يدعو للضياع : (بتطلعي انتي من صوت طفلة وسط اللمة منسية) ، وعندما يقول التجاني سعيد (عيونك زي سحابة صيف تجافي بلاد وتدي بلاد) يكون بذلك قد ادخل كل سحب الصيف في (فتيل). اما اذا قال هاشم صديق (حاجة فيك تقطع نفس خيل القصائد) فذلك يعني ان نقف، فقد قطع صبرنا ولا حيلة لنا ولا قبل لنا بذلك .. ان كانت انفاس خيول السبق لا تقطع فكيف بأنفاس خيول القصائد التى لا تملك من الاساس (انفاس) حتى تقطع ؟ هذا لا يحدث إلّا عند هاشم صديق فقد قطعها دهشة بها. وفي ذات السياق لم يقطع نفسي شيئاً اكثر من (وبرضي ما قادر اسيبك لما انساك بشتهيك) هذه حالة جمعت كل الاضداد في سطر واحد… الطبيعي ان تشتهي الذي تطراه اما ان تشتهي ما تنساه فهذا (اعجاز حسي) اتى به عوض احمد خليفة.

 الابداع في السودان يغني عن مؤونة الشتاء وقلة حيلة المرتب ورسوم المدارس والترحيل والخبز واللحوم والدواء والكهرباء والمواصلات العامة.

(2)

 عندما كان يغني الفنان عبدالكريم الكابلي (القومة ليك يا وطني) كنت اشعر ان الحجارة التى على الارض تقوم مثل منارات السفن، وان اعمدة الكهرباء تصبح مثل اشجار النخيل الباسقة وتزيد طولاً وهي في حالة القيام وتسقط رطباً جنياً… كانت رمالنا تتشابى، وتناطح قاماتنا السحاب والكابلي يغني (القومة ليك يا وطني).. نحن من جيل درس (الجغرافيا) محمد وردي ، و(التاريخ) الكابلي ،والرياضيات (عثمان حسين) ، والفلسفة (سيد خليفة) ، والفيزياء (النعام ادم) ، والكيمياء (ابوعركي البخيت) ، والأحياء (عائشة الفلاتية) ،والتربية الريفية (ابراهيم موسى ابا) ،والتربية الوطنية (العطبراوي) ، والتربية البدنية (بادي محمد الطيب) ، والفنون الجميلة (احمد المصطفى ) وجلسنا في امتحانات نص السنة (عبدالعزيز داؤود) وفي نهايتها (ابراهيم الكاشف) وكان اغلبنا يملحق في مادة (حسن عطية ) فنلجأ الى صلاح بن البادية وعبدالقادر سالم وحمد الريح وصديق عباس وزيدان ابراهيم ومحمد ميرغني وعلي اللحو والطيب عبدالله وزكي عبدالكريم وحسين شندي ومحجوب كبوشية من اجل النجاح.

 لقد قام عبدالكريم الكابلي من اجل هذا الوطن وهو حي .. كتب ولحن وغنى لمروى (فيك يا مروى شفت كل جديد) وكتب ولحن وغنى لجبل مرة (تجمعنا كمان مرة ومرة بين الحبان في جبل مرة) رغم انه من مواليد مدينة بورتسودان.

 الكابلي وهو مطرب غنى له عبدالعزيز داؤود (يا زاهية) من عمق المدرسة الاغنية (الوترية) وغنى له كمال ترباس من سطح المدرسة الشعبية (بريدك والريدة ظاهرة في عينيا) فكان ذلك قياماً اخر من اجل الوطن يجمع جغرافياً بين الغرب والشمال ويجمع فنياً بين الاغنية الحديثة والأغنية الشعبية .. هذا هو الكابلي الذي فرض شعيرة (القيام) في الفن من اجل الوطن.

(3)

 ان يقوم عبدالكريم الكايلي للوطن وهو (حي) هذا امر ليس غريباً على مبدع بكل ذلك العشق للوطن .. الذي ادهشنا .. هو ان يمارس الكابلي قيامه من اجل الوطن حتى وهو (ميت)..وان يثبت (القومة ليك يا وطني) وهو جثة هامدة .. قيام الجثث من اجل الوطن امر اخر يقوم به الفنان عبدالكريم الكابلي الذي رحل في يوم الجمعة 3 اغسطس 2021 وسوف يدفن جثمانه في يوم الجمعة 23 سبتمبر 2022 بمقابر الشيخ موسى بالصبابي حسب وصيته. حيث أعلنت أسرة الفنان الراحل، عبد الكريم الكابلي، أنه سيتم نقل جثمان الكابلي من مرقده؛ بالولايات المتحدة الأمريكية الى السودان، لدفنه في تراب وطنه، حسب وصيته. ويتوقع وصول الجثمان إلى الخرطوم عبر الطائرة الإثيوبية عند الساعة 11:30 من صباح يوم الجمعة القادم 23 سبتمبر ، وسيُصلى عليه بمسجد المرحوم حسن متولي بعد صلاة الجمعة، ومن ثم يُشيّع إلى مقابر الشيخ موسى بالصبابي حسب وصيته.

 الكابلي يقوم من مرقده لكي يدفن في تراب وطنه بعد اكثر من عام من تاريخ وفاته في الولايات المتحدة الامريكية.

 هل يتعلم السياسيون والمسؤولون الذين يتصارعون على السلطة ويتشاكسون حولها من هذا الدرس الذي يقدمه لهم عبدالكريم الكابلي وهو (ميت)؟

 ألا تخجلون؟

 ألا تشعرون؟

 ألا تحسون بالندم مما انتم فيه؟

 هذا درس يقدمه لكم مبدع وهو (ميت) بعد ان يئس الاحياء من تعليمكم لعلكم تتعلمون .. حيث لا حياة لمن تنادي .. فهم (اموات) .. لكن الاموات ايضاً يواصلون (القيام) من اجل هذا الوطن ان كانوا في قامة الكابلي.

(4)

 بغم
 هؤلاء السياسيون لا يقومون إلّا اذا قالوا لهم (تعالوا أكلوا) .. الاكل بيبرد!!

 وكل الطرق تؤدي الى (المدنية).

صحيفة الانتباهة