الجمعة 16 أغسطس 2024 - 19:44
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا
أَسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا
قد دللنا فيما مضى قَبْلُ ، على أن تأويل «الظلم»، وضع الشيء في غير
موضعه. وتأويل قوله : ومَنْ أظلم»، وأي امرىء أشد تعدياً وجراءة على الله
وخلافاً لأمره، من امرىءٍ مَنَعَ مساجدَ الله أَنْ يُعبَدَ الله فيها؟
والمساجد» جَمْعُ (مسجد): وهو كُلُّ موضع عبد الله فيه. وقد بينا معنى
«السجود» فيما مضى . فمعنى «المسجد»: الموضع الذي يُسْجَدُ اللهِ فيه، كما
يُقالُ للموضع الذي يُجْلَسُ فيه: «المجلس»، وللموضع الذي يُنْزَلُ فيه «منزل»
ثم يجمع: منازل ومجالس»، نظير مسجدٍ وَمَساجد. وقد حكي
بعض العرب مساجد»، في واحد المساجد، وذلك كالخطأ
من
سماعاً
قائله
من
وأما قوله : «أنْ يُذْكَرَ فيها اسمه»، فإنَّ فيه وجهين من التأويل.
أحدهما : أن يكون معناه : ومَنْ أظلم ممن منع مساجد الله من أَن يُذْكَرَ
فيها اسمه، فتكون «أن حينئذ نصباً من قول بعض أهل العربية بفَقْدِ
الخافض، وتعلق الفعل بها.
والوجه الآخر: أن يكون معناه : ومَنْ أظلمُ مِمَّنْ مَنع أَنْ يُذْكَرَ اسم الله
في مساجده، فتكون «أن حينئذ في موضع نصب، تكريراً على موضع


وأما قوله : وسعى في خرابها فإن معناه ومَنْ أظلم ممن منع مساجد
الله أن يُذكر فيها اسمه، ومِمَّنْ سَعى في خراب مساجد الله . فـ «سعى» إذاً،
عطف على «منع».
هم
النصارى،
فإن قال قائل : ومَن الذي عنى بقوله : ومن أظلم ممن منع مساجد الله
أن يُذكر فيها اسْمُه وسَعى في خرابها»؟ وأي المساجد هي؟
قيل: إنَّ الذين منعوا مساجدَ الله أَن يُذْكَرَ فيها اسمه
والمسجد بيت المقدس، وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس،
وأعَانُوا بُختنصر على ذلك، ومَنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد
منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده.
مشركي
والدليل على صِحَّةِ ما قلنا في ذلك، قيام الحجة بأنْ لا مسجدَ عَلَى اللَّه
عَزَّ وجلَّ بقوله: «وسعى في خَرَابها» إلا أحد المسجدين: إما مسجد بيت
المقدس، وإما المسجد الحرام. وإذ كان ذلك كذلك ـ وكان معلوماً أنَّ
قريش لم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام، وإن كانوا قد منعوا في بعض
الأوقات رسول الله ﷺه وأصحابه من الصلاة فيه - صَحَ وثبت أن الذين وصفهم
الله عز وجل بالسعي في خراب مساجده، غير الذين وصفهم الله بعمارتها.
إذ كان مشركو قريش بنوا المسجد الحرام في الجاهلية، وبعمارته، كان
افتخارهم، وإن كان بعض أفعالهم فيه، كان منهم على غير الوجه الذي يرضاه
الله منهم .
وأخرى، أن الآية التي قبل قوله : ومَنْ أظلم ممن منع مساجد الله أن
يُذكر فيها اسمه»، مضت بالخبر عن اليهود والنصارى وذم أفعالهم، والتي بعدها
نبهت بدم النصارى والخبر عن افترائهم على ربهم، ولم يجر لقريش ولا
لمشركي العرب ذكر، ولا للمسجد الحرام قبلها فيوجه

-
وجل : ومَنْ أظلم ممن مَنَعَ مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه» ـ إليهم وإلى
المسجد الحرام .
وإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالآية أن يوجه تأويلها إليه، وهو
ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها، إذ كان خبرها لخبرهما نظيراً وشكلاً،
إلا أن تقوم حُجةٌ يجب التسليم لها بخلاف ذلك، وإن اتفقت قصصها
فاشتبهت .
فإنْ ظَنَّ ظان أنَّ ما قلنا في ذلك ليس كذلك ـ إذ كان المسلمون لم
يلزمهم قط فَرْضُ الصلاة في المسجد المقدس، فمنعوا من الصلاة فيه
فيلجئون توجيه قوله : ومَنْ أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه»،
إلى أنه معني به مسجد بيت المقدس - فقد أخطأ فيما ظن من ذلك. وذلك
أن الله جَلَّ ذِكْرُه إنما ذكر ظُلْمَ مَنْ مَنع مَنْ كان فرضه الصلاة في بيت المقدس
من مؤمني بني إسرائيل، وإياهم قصد بالخبر عنها بالظلم والسعي في خراب
المسجد. وإن كان قَدْ دَلَّ بعموم قوله : ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنع مساجدَ الله أَنْ
يُذكر فيها اسمه»، أَنَّ كُلَّ مانع مصلياً .
- فرضاً كانت صلاته
في مسجد لله ،
فيه أو تطوعاً - وكل ساع في إخرابه، فهو من المعتدين الظالمين. الخبر - بقول الله عَزَّالمساجد ورداً عليه .