الجمعة 16 أغسطس 2024 - 21:19
وَرَوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ، وَعَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَنْوَاكَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّلِمُونَ )
يخبر تعالى عن امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها بمصر، وقد أوصاها زوجها به وبإكرامه ( وَرَوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن
نَفْسِهِ ) أي : حاولته على نفسه، ودعته إليها، وذلك أنها أحبته حباً شديداً لجماله وحسنه وبهائه، فحملها ذلك على أن تجملت
له، وغلقت عليه الأبواب، ودعته إلى نفسها، وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ، فامتنع من ذلك أشد الامتناع، و ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي
أَحْسَنَ مَنْوَاى) وكانوا يطلقون «الرب» على السيد والكبير ، أي : إن بعلك ربي أحسن مثواي أي : منزلي وأحسن إلي، فلا أقابله
بالفاحشة في أهله ، إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّلِمُونَ ) قال ذلك مجاهد، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم. وقد اختلف القراء في
قراءة : هَيْتَ لَك ، فقرأه كثيرون بفتح الهاء ، وإسكان الياء، وفتح التاء. وقال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد: معناه:
أنها تدعوه إلى نفسها. وقال علي بن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس : هَيْتَ لَكَ ) تقول : هلم لك. وكذا قال زرّ بن
حبيش، وعِكْرِمة والحسن وقتادة. قال عمرو بن عُبيد، عن الحسن : وهي كلمة بالسريانية، أي: عليك. وقال السدي:
هَيتَ لَكَ ) أي : هلم لك، وهي بالقبطية وقال مجاهد : . هي
لغة عربية تدعوه بها وقال البخاري : وقال عكرمة : هَيْتَ
لك ) : ملم لك بالحَوْرانية. هكذا ذكر معلقاً، وقد أسنده الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني أحمد بن سُهَيْل الواسطي، حدثنا
قرة بن قيسي، حدثنا النضر بن عربي الجزري، عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله : هَيْتَ لَكَ ) قال: هلم لك . قال : م
بالحورانية. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام وكان الكسائي يحكي هذه القراءة - يعني : هَيْتَ لَكَ ) - ويقول : هي لغة لأهل
حوران، وقعت إلى أهل الحجاز، معناها : تعال . وقال أبو عبيد سألت شيخاً عالماً من أهل حوران، فذكر أنها لغتهم يعرفها .
واستشهد الإمام ابن جرير على هذه القراءة بقول الشاعر لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه :
أب
إن الـ
ـر الـ
ـؤمـ
ـراقَ وَأَهْـ
يقول : فتعال واقترب .
ـن
سَرَاقٍ إِذَا أَتَ
هي
وقرأ ذلك آخرون : هيتُ لك بكسر الهاء والهمزة، وضم التاء، بمعنى : تهيأت لك من قول القائل : هئت للأمر أهي هيئة،
وممن روي عنه هذه القراءة ابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو وائل، وعكرمة، وقتادة، وكلهم يفسرها بمعنى:
تهيأت لك. قال ابن جرير : وكان أبو عمرو والكسائي ينكران هذه القراءة. وقرأ عبد الله بن إسحاق : ﴿هَيتِ) ، بفتح الهاء
التاء : وهي غريبة. وقرأ آخرون منهم عامة أهل المدينة هَيْتُ بفتح الهاء ، وضم التاء، وأنشد قول الشاعر :
وكسر
قــومــي بــالأَبـــــديــــن إِذَا مَـــا قالَ دَاعٍ مـــــن الـــــعـ ـشـ يرة هيت
'
قال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري عن الأعمش، عن أبي وائل قال : قال ابن مسعود قد سمعت القرأة فسمعتهم متقاربين،
فاقرؤوا كما علمتم ، وإياكم والتنطع والاختلاف، فإنما هو كقول أحدكم : «هلم» و «تعال» ثم قرأ عبد الله : هَيْتَ لَكَ ،
فقال : يا أبا عبد الرحمن، إن ناسا يقرؤونها : هَيْتُ لك ) ؟ فقال عبد الله : إني أقرأها كما عُلمت، أحب إلي . وقال ابن
جرير : حدثني ابن وكيع، حدثنا ابن عُيَيْنة، عن منصور، عن أبي وائل قال : قال عبد الله : هَيْتَ لَكَ . فقال له مسروق : إن
ناساً يقرؤونها : هَيْتُ لك ؟ فقال : دعوني فإني أقرأ كما أقرنتُ أحب إلى . وقال أيضاً : حدثني المثنى، حدثنا آدم بن أبي
إياس، حدثنا شعبة، عن شقيق عن ابن مسعود قال : هَيْتَ لَكَ بنصب الهاء والتاء ولا بهمز . وقال آخرون : هِنتُ
لك) ، بكسر الهاء، وإسكان الياء، وضم التاء . قال أبو عُبيدة معمر بن المثنى : (هيت) لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث، بل

يخاطب الجميع بلفظ واحد ، فيقال : هيت لكَ، وهيت لكِ، وهيت لكما، وهيت لكم، وهيت لهن .
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَ بِهَا لَوْلَا أَن رَّمَا بُرْهَنَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ )
اختلفت أقوال الناس وعباراتهم في هذا المقام، وقد روي عن ابن عباس ومجاهد، وسعيد بن جبير، وطائفة من السلف في
ذلك ما ذكره ابن جرير وغيره، والله أعلم. وقال بعضهم : المراد بهمه بها هَمْ خَطرات حديث النفس . حكاه البغوي عن بعض
أهل التحقيق، ثم أورد البغوي ههنا حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر ، عن همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال
رسول الله ﷺ : يقول الله تعالى : إذا هَمَ عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها، وإن هم بسيئة
قلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإنما تركها من جرائي، فإن عملها فاكتبوها بمثلها». وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، وله
ألفاظ كثيرة، هذا منها . وقيل : هم بضربها . وقيل : تمناها زوجة . وقيل : وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّمَا بُرْهَنَ رَبِّهِ ) أي : فلم يهم بها .
وفي هذا القول نظر من حيث العربية، ذكره ابن جرير وغيره. وأما البرهان الذي رآه ففيه أقوال أيضاً: فعن ابن عباس،
ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين ،والحسن ،وقتادة وأبي صالح، والضحاك ومحمد بن إسحاق، وغيرهم:
رأى صورة أبيه يعقوب عليه السلام عاضاً على أصبعه بفمه. وقيل عنه في رواية : فضرب في صدر يوسف. وقال العوفي،
عن ابن عباس : رأى خيال الملك، يعني: سيده، وكذا قال محمد بن إسحاق، فيما حكاه عن بعضهم : إنما هو خيال إطفير
سیده، حین دنا من الباب. وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع، عن أبي مودود، سمعت من محمد بن كعب
القرظي قال : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت، فإذا كتاب في حائط البيت : ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِفَ إِنَّهُ كَانَ فَحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا .
[الإسراء: ٣٢]. وكذا رواه أبو مَعْشَر المدني، عن محمد بن كعب. وقال عبد الله بن وهب، أخبرني نافع بن يزيد، عن
أبي صخر قال : سمعت القرظي يقول في : «البرهان» الذي رأى يوسف : ثلاث آيات من كتاب الله وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَفِظِينَ )
الآية [الانفطار : ١٠]، وقوله: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ) الآية [يونس : ٦١] ، وقوله : (أَفَمَنْ هُوَ قَابِرُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الرعد: ۳۳] قال
نافع : ع : سمعت أبا هلال يقول مثل قول القرظي، وزاد آية رابعة وَلَا تَقْرَبُوا الزن) [الإسراء : ۳۲). وقال الأوزاعي : رأى آية من
كتاب الله في الجدار تنهاه عن ذلك. قال ابن جرير والصواب أن يقال : إنه رأى من آيات الله ما زجره عما كان هم به، وجائز
أن يكون صورة يعقوب، وجائز أن يكون صورة الملك، وجائز أن يكون ما رآه مكتوباً من الزجر عن ذلك. ولا حجة قاطعة على
تعيين شيء من ذلك، فالصواب أن يطلق كما قال الله تعالى . قال : وقوله : ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء ) أي : كما
أريناه برهاناً صرفه عما كان فيه كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره . (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) أي : المجتبين
المطهرين المختارين المصطفين الأخيار صلوات الله وسلامه عليه .