الجمعة 16 أغسطس 2024 - 21:28
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَوِدُ فَنَنَهَا عَن نَفْسِهِ. قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَنهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ
وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُنْكَنَا وَانَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِينَا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكَ كَرِيمٌ
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَوَدتُّهُ عَن نَفْسِهِ، فَاسْتَعْصَمَ وَلَن لَّمْ يَفْعَلْ مَا دَامُرُمُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَا مِنَ الصَّبْغِرِينَ قَالَ رَبِّ الْيَجْنُ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْعَهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ
'
يخبر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة، وهي ،مصر ، حتى تحدث الناس به، ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ مثل
نساء الأمراء والكبراء، ينكرن على امرأة العزيز، وهو الوزير، ويعبن ذلك عليها : امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَنَهَا عَن نَّفْسِهِ ) أي :
تحاول غلامها عن نفسه، وتدعوه إلى نفسها، وقَدْ شَغَفَهَا حُبّاً ) أي : قد وصل حبه إلى شغاف قلبها . وهو غلافه. قال الضحاك
عن ابن عباس : الشَّغَف: الحب القاتل والشَّغَف دون ذلك، والشغاف : حجاب القلب . إنَّا لَنَزَنَهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ أي : في
صنيعها هذا من حبها فتاها ومراودتها إياه عن نفسه . ﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ : قال بعضهم بقولهن. وقال محمد بن إسحاق : بل
بَلَغَهُنَّ حُسْنُ يوسف، فأحبين أن يرينه، فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته ، فعند ذلك أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ) أي : دعتهن إلى
منزلها لتضيفهن وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُنْكَا . قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد ،والحسن والسدي وغيرهم : هو المجلس
المعد فيه مفارش ومخاد وطعام فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه . ولهذا قال تعالى: ﴿وَانَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِينًا،
وكان هذا مكيدة منها، ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته ، وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ، وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر،
فَلَمَّا خرج و رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ) أي : أعظمن شأنه، وأجللن قدره ؛ وجعلن يقطعن أيديهن دَهَشاً برؤيته، وهن يظنن أنهن يقطعن
الأترج بالسكاكين، والمراد أنهن حززن أيديهن بها، قاله غير واحد. وعن مجاهد وقتادة : قطعن أيديهن حتى ألقينها، فالله
أعلم. وقد ذكر عن زيد بن أسلم أنها قالت لهن بعدما أكلن وطابت أنفسهن، ثم وضعت بين أيديهن أترجاً، وآتت كل واحدة
منهن سكيناً : هل لكن في النظر إلى يوسف؟ قلن : نعم. فبعثت إليه تأمره أن اخرج إليهن، فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن، ثم
أمرته أن يرجع فرجع ليرينه مقبلاً ومدبراً، وهن يحززن في أيديهن، فلما أحسسن بالألم جعلن يولولن، فقالت : أنتن من نظرة
واحدة فعلتن هكذا، فكيف ألام أنا ؟ فقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم، ثم قلن لها وما نرى عليك من لوم بعد
الذي رأينا، لأنهن لم يرين في البشر شبهه ولا قريباً منه فإنه صلوات الله عليه وسلم كان قد أعطي شطر الحسن، كما ثبت
ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء : أن رسول الله ﷺ مر بيوسف عليه السلام في السماء الثالثة، قال: «فإذا هو
قد أعطي شطر الحسن». وقال حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله ﷺ : أعطي يوسف وأمه شطر
الحسن». وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: أعطي يوسف وأمه ثلث
الحسن. وقال أبو إسحاق أيضاً، عن أبي الأخوص، عن عبد الله قال : كان وجه يوسف مثل البرق، وكانت المرأة إذا أتته
لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتتن .به. ورواه الحسن البصري مرسلاً عن النبي أنه قال: «أعطي يوسف وأمه ثلث حسن

أهل الدنيا، وأعطي الناس الثلثين - أو قال : أعطي يوسف وأمه الثلثين والناس الثلث. وقال سفيان عن منصور، عن مجاهد
عن ربيعة الجرشي قال : قسم الحسن ،نصفين، فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن، والنصف الآخر بين سائر الخلق. وقال
الإمام أبو القاسم السهيلي: معناه : أن يوسف كان على النصف من حسن آدم عليه السلام فإن الله خلق آدم بيده على أكمل
صورة وأحسنها، ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله، وكان يوسف قد أعطي شطر حسنه . فلهذا قال هؤلاء النسوة عند
رؤيته : حَشَ لِلَّهِ قال مجاهد وغير واحد : معاذ الله ، مَا هَذَا بَشَرًا وقرأ بعضهم : ما هذا بشرى) أي : بمشترى .
وإِن هَذَا إِلَّا مَلَكَ كَرِيمٌ قَالَتْ هَذَلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَنِي فِيهِ ) : تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق بأن يحبّ لجماله وكماله . ﴿وَلَقَدْ
رودتُّمْ عَن نَّفْسِهِ، فَأَسْتَعْصَمَ ) أي : فامتنع . قال بعضهم : لما رأين جماله الظاهر، أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن، وهي
العفة مع هذا الجمال ، ثم قالت تتوعد : ﴿وَلَن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَا مِّنَ الصَّغِرِينَ ) ، فعند ذلك استعاذ يوسف، عليه
السلام، من شرهن وكيدهن، وقال: ﴿رَبَ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَى مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) أي : من الفاحشة، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ
إلَيْهِنَّ ) أي : إن وكلتني إلى نفسي، فليس لي من نفسي قدرة، ولا أملك لها ضراً ولا نفعاً إلا بحولك وقوتك، أنت المستعان
وعليك التكلان، فلا تكلني إلى نفسي. أَصْبُ إلَهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْمَهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
العَلِيمُ ) ، وذلك أن يوسف عليه السلام عَصَمه الله عصمة عظيمة، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع، واختار السجن على
ذلك، وهذا في غاية مقامات الكمال : أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته، وهي امرأة عزيز مصر، وهي مع هذا في غاية
الجمال والمال، والرياسة ويمتنع من ذلك ، ويختار السجن على ذلك، خوفاً من الله ورجاء ثوابه. ولهذا ثبت في الصحيحين
رسول الله ﷺ قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق
بالمسجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها .
تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب، فقال: إني
أخاف الله .
ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينِ )
حتى
أن
У
يقول تعالى : ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين، أ أي : إلى مدة وذلك بعدما عرفوا براءته، وظهرت
عفته ونزاهته فكأنهم - والله أعلم - إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاماً أن هذا راودها
الأدلة - على صدقه
وهي
الآيات -
في
عن نفسها، وأنهم سجنوه على ذلك . ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة امتنع من الخروج حتى تتبين براءته مما نسب
إليه من الخيانة، فلما تقرر ذلك خرج وهو نَقِي العرض، صلوات الله عليه وسلامه . وذكر السُّدّي : أنهم إنما سجنوه لئلا يشيع
ما كان منها في حقه، ويبرأ عرضه فيفضحها .