الخميس 7 أكتوبر 2021 - 7:35
دعوة الولايات المتحدة للعودة إلى النظام التوافقي جاءت بعد ظهور آثار وتبعات المحاولة الانقلابية الأخيرة
تجدد حث الولايات المتحدة للحكومة السودانية، بضرورة المضي قدماً نحو الحكم المدني بالتوصل إلى توافق تتولى فيه شخصية مدنية رئاسة مجلس السيادة، حتى لا تعرض علاقة السودان الثنائية معها للخطر، ملوحة ببند المساعدات الكبير. ما يثير الاهتمام في المطلب الأميركي ليس الإشارة إلى إبعاد العسكر من رئاسة مجلس السيادة، ولكن في الوصول إلى ذلك بصيغة توافقية من خلال التراضي العام، من دون أن تطلب تحديداً لنهاية الفترة الانتقالية وإقامة الانتخابات. وهو ما يشير إلى أن المقصد الأساسي من نظام الديمقراطية التوافقية الذي يقوم على التراضي العام من أجل تطوير مبادئ وأسس التطور الديمقراطي، وإشاعة نوع من التوافق السياسي كآلية مهمة ومؤثرة في إدارة المرحلة الانتقالية تمهيداً لنظام سياسي أكثر استقراراً، ربما يتلاشى مع طول الفترة الانتقالية، ثم مغادرة محطتها أخيراً بغير حصاد ديمقراطي.
“مجموعة الأربعة”
جاءت دعوة الولايات المتحدة إلى العودة إلى النظام التوافقي، بعد ظهور آثار وتبعات المحاولة الانقلابية الأخيرة وما بدا كمحاولات إقصاء المكونين المدني والعسكري لبعضهما، إذ نادى عضو مجلس السيادة محمد الفكي سليمان الشعب السوداني عبر وسائل التواصل الاجتماعي بأن “هبوا إلى حماية ثورتكم”، وزاد على ذلك بتصريحاته في التلفزيون القومي بأن العسكر يخصمون من رصيده السياسي، ما دعا رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو )حميدتي( للتصريح أيضاً بأنهما لن يجلسا مع المكون المدني على طاولة واحدة، إلا بالعودة إلى الوفاق.
كشفت آثار المحاولة الانقلابية اتساع الشقة بين الجانبين، وأن كل طرف ينتظر فرصة للتخلص من الطرف الآخر، ويقود هذا المسار أربع شخصيات على رأسها محمد الفكي سليمان الذي ينتمي للحزب الاتحادي الديمقرطي، وهو جزء من تجمع أحزاب اتحادية تحت مسمى “التجمع الاتحادي” الذي يمثل إحدى كتل تحالف قوى الحرية والتغيير. وسُميت بـ “جماعة الأربعة”، إشارة إلى “عصابة الأربعة” وهو الاسم الذي أُطلق على مجموعة سياسية يسارية مؤلفة من أربعة مسؤولين في الحزب الشيوعي الصيني، برزوا إلى الأضواء أثناء الثورة الثقافية الصينية )1966- 1967( واتهموا بارتكاب سلسلة من جرائم الخيانة وهدم الثورة الثقافية. وسيطرت “عصابة الأربعة” بشكل فعال على أجهزة السلطة في الحزب الشيوعي الصيني خلال المراحل الأخيرة من الثورة الثقافية. وفي عام 1969 بعد أن هدأت الأوضاع عقب الثورة، سيطرت العصابة على مؤسسات الصحافة والإعلام وبدأت بالتدقيق في كل وسائل الدعاية وكل ما يُكتب من مقالات في الصحف ليتفق مع أهواء المسؤولين السياسيين.
وهذه المقاربة تأتي في سياق أن “مجموعة الأربعة” ينتمون إلى أحزاب سياسية ضعيفة، وحسب المقاربة فإنه مثلما تدخل الجيش في عهد ماو تسي تونغ لإعادة الاستقرار السياسي، فإن إيقاع الأحزاب المكونة للمدنيين في مجلس السيادة الانتقالي التي تحاول فرض قيمها الأيديولوجية يستدعي أيضاً تدخل الجيش لضبطه، والعودة إلى الوفاق الذي بدأ به المجلس السيادي.
تجربة توافقية
العودة إلى النظام التوافقي عند الطرفين يعني الرجوع إلى النقطة التي ابتدآ منها بعد قيام الثورة وسقوط النظام، ولكنها تبدو غريبة عندما تحث عليها الولايات المتحدة، بعد أن كانت تطالب بتسريع انتهاء الفترة الانتقالية وتحديد موعد الانتخابات. وحدث ذلك عندما زار المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان الخرطوم بعد أسبوع من المحاولة الانقلابية، ووجد التوترات بين المكونين المدني والعسكري على أشدها. وعندما التقى برئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبدالله حمدوك، حثهما على إحراز “تقدم سريع” نحو الحكم المدني، والتوافق على موعد تتولى فيه شخصية مدنية رئاسة مجلس السيادة.
قامت الفترة الانتقالية تأسيساً على اعتماد مبدأ التوافق بين مكونات المجتمع وممثلي كافة الجماعات داخل الدولة، وهي إثنية أو قبلية أو غيرها من مختلف الهويات الموجودة في المجتمع لخلق بيئة سياسية مستقرة، على ألا تتحول إلى محاصصات سياسية وحزبية وإثنية، وما حدث الآن فضلاً عن حدوث المحاصصات، فقد اشتد أيضاً الاستقطاب السياسي، فأصبحت بعض الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام والمشاركة في السلطة، مغضوباً عليها من قِبل الحركات الأخرى من جهة، ومن أهالي أقاليمها من جهة أخرى. يرى البعض أن المحاصصات بدأت قبل توقيع اتفاق جوبا للسلام، وذلك بتعيين منسوبي قوى الحرية والتغيير في الحكومة وهي التي وقعت على الوثيقة الدستورية بألا تحكم أثناء المرحلة الانتقالية، بل يجب أن تتهيأ استعداداً للانتخابات، وأن تقوم الفترة الانتقالية على حكومة تكنوقراط. ووجه آخرون نقدهم للمكون العسكري بأنه يحاول الانفراد بالسلطة، وإبعاد المكون المدني بشتى السبل، خصوصاً عندما يستجيب لاستفزازاتهم. ووصل هذا النقد مرحلة متقدمة بعد المحاولة الانقلابية ووقوف بعض زعماء الحركات المسلحة مع المكون العسكري، ووصف جبريل إبراهيم زعيم حزب وحركة العدل والمساواة، وزير المالية في الفترة الانتقالية، ومني أركو مناوي رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، المعين حديثاً حاكماً عاماً لإقليم دارفور بأنهما وقعا تحت إمرة العسكر.
ديمقراطية ناقصة
يحذِر المطلب الأميركي من الانحراف عن المسار القائم فعلاً، ويدعو إلى إزالة التوترات، وربما التطور الطفيف في المطلب الأميركي هو تولي شخصية مدنية رئاسة المجلس، ولكن لماذا لم تطالب الولايات المتحدة بأكثر من ذلك، وتجربة الحكم التوافقية في حد ذاتها ليست ديمقراطية كاملة، وإنما هي بديل عن الديمقراطية الليبرالية، لأجل معلوم وفي حالة الضرورة لحماية البلاد من الانهيار في ظل الحروب والنزاعات والفراغ التشريعي.
ربما ترى الولايات المتحدة أن الديمقراطية بصيغتها الغربية قد لا تكون ملائمة للوضع السوداني الحالي، فالنظام التوافقي هو الخيار الأقرب والأفضل في الوقت الراهن، للظروف المذكورة، ولكن ليس بسبب الأقليات المذهبية أو الإثنية، بل إن وفرة الأقليات في كل الأقاليم خلق من السودان بلداً متعدداً ومتنوع المكونات، ولذا ينتفي هنا حكم الأغلبية على الأقلية لصالح التنوع.
أُسست هذه التجربة التوافقية بناءً على توقّع إخفاق الديمقراطية في السودان بشكل عام، ولكن حاد النمط المرسوم ابتداءً عن مبدأ التوافق الائتلافي بين مكونات المجتمع وإعطائهم فرصة للمشاركة، وبدأت مؤشرات ومعطيات تركيبة الحكومة الانتقالية في التراجع عن الحفاظ على درجة التوافق، فتم الاستقطاب واقتسام السلطة بين الأحزاب السياسية والمكون العسكري والحركات المسلحة، وهو عين ما كان يقوم به النظام السابق، فكلما اشتد عليه التضييق الدولي، ينشىء حكومة ائتلافية ويقتسم السلطة مع المعارضة. الآن المجتمع السوداني والقوى الثورية الممثلة له تشعر أنها ليست شريكة في السلطة، وخارج دائرة اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي ، فانعدمت الثقة بينهم وبين الحكومة وبدأ ضغط القوى الثورية يتفاقم على المكونين المدني والعسكري، ففعلا دفاعهما بالهجوم الحاد على بعضهما وتبادل التراشق الإعلامي والاتهامات.
تمرين ديمقراطي
إن كانت الديمقراطية التوافقية هي أولى عتبات الديمقراطية الليبرالية، فإن الوصول إليها اعترضته بعض العوامل، أولها الضيق الشعبي الذي لازم النظام السابق، وبعد سقوطه تخيلت الجماهير تأسيس حكومة مستقرة، وهذا ما لم يحدث لأن النظام التوافقي يستلزم هدوء المعارضة إلى أن تتحقق الديمقراطية الليبرالية. إضافة إلى أن قوى الحرية والتغيير التي تعودت الجلوس على دكة المعارضة، لا تزال تحتفظ بمقعدها هناك وتشارك في الحكومة في آن واحد، وهذا ما كاد يهدم المجلس الانتقالي خصوصاً مع غياب المجلس التشريعي وعدم وجود قوانين منظمة للعمل السياسي. العامل الثاني، يتمثل في بطء اتخاذ القرارات وتنفيذها وعرقلتها لا لسبب إلا لإظهار كل طرف بأنه موجود وله كلمته. والعامل الثالث أنه بدلاً من أن يقدم المكونان المدني والعسكري بعض التنازلات، وجد الشعب نفسه هو الذي يقدم التنازلات عن المطالب الأساسية المتعلقة بالوضع الاقتصادي والحريات وغيرها. العامل الرابع هو الاندماج بين الأحزاب الطائفية، وقوى وجماعات تيار الإسلام السياسي المتمثلة في أعضاء النظام السابق وبعض الأحزاب الإسلامية الموجودة على الساحة السياسية، التي تحاول تذويب أيديولوجيتها من خلال هذا الاندماج.
تمثل هذه الفترة فرصة للتمرين على الديمقراطية وتقبل نتائجها أياً كانت، بالالتزام بالشروط التمهيدية التي تسمح بالتطور نحو الديمقراطية. ولكن نسبة لتعثر الحكومة الحالية وافتقادها إلى التراضي الوطني حول هذه الفترة المؤقتة، ومحاولة فرض الأثوقراطية الفردية من المكونين، فإنه أمام هذه الانتكاسة وعدم الالتزام بالمباديء والقواعد لضمان سلامة العملية الديمقراطية، يصبح من الصعب الحلم بديمقراطية ليبرالية.
ربما تعيد هذه التجربة، وهي ليست حديثة على التاريخ السياسي السوداني، التجارب السابقة ذاتها بانتكاستها فيعقبها انقلاب وعودة نظام عسكري، ما لم يحدث نوع من التوازن السياسي في السلطة بتخفيف نسبة ممثلي الأحزاب السياسية لصالح المكونات الاجتماعية الأخرى وتوزير التكنوقراط. ويتبدى سر التركيز الأميركي على الديمقراطية التوافقية باعتبارها الأنسب للسودان لأنها تشكل مانعاً لأزمات التهميش السياسى في بلد منقسم إثنياً وطائفياً، إضافة إلى مشكلاته الاقتصادية، وكمضاد للانفصال بين مكونات الدولة الوطنية. وربما يكون الطريق طويلاً نوعاً ما، قبل الوصول إلى حالة التوافق الديمقراطي بتنظيم هذا التعدد في إطار الوحدة.
منى عبدالفتاح
دعوة الولايات المتحدة للعودة إلى النظام التوافقي جاءت بعد ظهور آثار وتبعات المحاولة الانقلابية الأخيرة
تجدد حث الولايات المتحدة للحكومة السودانية، بضرورة المضي قدماً نحو الحكم المدني بالتوصل إلى توافق تتولى فيه شخصية مدنية رئاسة مجلس السيادة، حتى لا تعرض علاقة السودان الثنائية معها للخطر، ملوحة ببند المساعدات الكبير. ما يثير الاهتمام في المطلب الأميركي ليس الإشارة إلى إبعاد العسكر من رئاسة مجلس السيادة، ولكن في الوصول إلى ذلك بصيغة توافقية من خلال التراضي العام، من دون أن تطلب تحديداً لنهاية الفترة الانتقالية وإقامة الانتخابات. وهو ما يشير إلى أن المقصد الأساسي من نظام الديمقراطية التوافقية الذي يقوم على التراضي العام من أجل تطوير مبادئ وأسس التطور الديمقراطي، وإشاعة نوع من التوافق السياسي كآلية مهمة ومؤثرة في إدارة المرحلة الانتقالية تمهيداً لنظام سياسي أكثر استقراراً، ربما يتلاشى مع طول الفترة الانتقالية، ثم مغادرة محطتها أخيراً بغير حصاد ديمقراطي.
“مجموعة الأربعة”
جاءت دعوة الولايات المتحدة إلى العودة إلى النظام التوافقي، بعد ظهور آثار وتبعات المحاولة الانقلابية الأخيرة وما بدا كمحاولات إقصاء المكونين المدني والعسكري لبعضهما، إذ نادى عضو مجلس السيادة محمد الفكي سليمان الشعب السوداني عبر وسائل التواصل الاجتماعي بأن “هبوا إلى حماية ثورتكم”، وزاد على ذلك بتصريحاته في التلفزيون القومي بأن العسكر يخصمون من رصيده السياسي، ما دعا رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو )حميدتي( للتصريح أيضاً بأنهما لن يجلسا مع المكون المدني على طاولة واحدة، إلا بالعودة إلى الوفاق.
كشفت آثار المحاولة الانقلابية اتساع الشقة بين الجانبين، وأن كل طرف ينتظر فرصة للتخلص من الطرف الآخر، ويقود هذا المسار أربع شخصيات على رأسها محمد الفكي سليمان الذي ينتمي للحزب الاتحادي الديمقرطي، وهو جزء من تجمع أحزاب اتحادية تحت مسمى “التجمع الاتحادي” الذي يمثل إحدى كتل تحالف قوى الحرية والتغيير. وسُميت بـ “جماعة الأربعة”، إشارة إلى “عصابة الأربعة” وهو الاسم الذي أُطلق على مجموعة سياسية يسارية مؤلفة من أربعة مسؤولين في الحزب الشيوعي الصيني، برزوا إلى الأضواء أثناء الثورة الثقافية الصينية )1966- 1967( واتهموا بارتكاب سلسلة من جرائم الخيانة وهدم الثورة الثقافية. وسيطرت “عصابة الأربعة” بشكل فعال على أجهزة السلطة في الحزب الشيوعي الصيني خلال المراحل الأخيرة من الثورة الثقافية. وفي عام 1969 بعد أن هدأت الأوضاع عقب الثورة، سيطرت العصابة على مؤسسات الصحافة والإعلام وبدأت بالتدقيق في كل وسائل الدعاية وكل ما يُكتب من مقالات في الصحف ليتفق مع أهواء المسؤولين السياسيين.
وهذه المقاربة تأتي في سياق أن “مجموعة الأربعة” ينتمون إلى أحزاب سياسية ضعيفة، وحسب المقاربة فإنه مثلما تدخل الجيش في عهد ماو تسي تونغ لإعادة الاستقرار السياسي، فإن إيقاع الأحزاب المكونة للمدنيين في مجلس السيادة الانتقالي التي تحاول فرض قيمها الأيديولوجية يستدعي أيضاً تدخل الجيش لضبطه، والعودة إلى الوفاق الذي بدأ به المجلس السيادي.
تجربة توافقية
العودة إلى النظام التوافقي عند الطرفين يعني الرجوع إلى النقطة التي ابتدآ منها بعد قيام الثورة وسقوط النظام، ولكنها تبدو غريبة عندما تحث عليها الولايات المتحدة، بعد أن كانت تطالب بتسريع انتهاء الفترة الانتقالية وتحديد موعد الانتخابات. وحدث ذلك عندما زار المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان الخرطوم بعد أسبوع من المحاولة الانقلابية، ووجد التوترات بين المكونين المدني والعسكري على أشدها. وعندما التقى برئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبدالله حمدوك، حثهما على إحراز “تقدم سريع” نحو الحكم المدني، والتوافق على موعد تتولى فيه شخصية مدنية رئاسة مجلس السيادة.
قامت الفترة الانتقالية تأسيساً على اعتماد مبدأ التوافق بين مكونات المجتمع وممثلي كافة الجماعات داخل الدولة، وهي إثنية أو قبلية أو غيرها من مختلف الهويات الموجودة في المجتمع لخلق بيئة سياسية مستقرة، على ألا تتحول إلى محاصصات سياسية وحزبية وإثنية، وما حدث الآن فضلاً عن حدوث المحاصصات، فقد اشتد أيضاً الاستقطاب السياسي، فأصبحت بعض الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام والمشاركة في السلطة، مغضوباً عليها من قِبل الحركات الأخرى من جهة، ومن أهالي أقاليمها من جهة أخرى. يرى البعض أن المحاصصات بدأت قبل توقيع اتفاق جوبا للسلام، وذلك بتعيين منسوبي قوى الحرية والتغيير في الحكومة وهي التي وقعت على الوثيقة الدستورية بألا تحكم أثناء المرحلة الانتقالية، بل يجب أن تتهيأ استعداداً للانتخابات، وأن تقوم الفترة الانتقالية على حكومة تكنوقراط. ووجه آخرون نقدهم للمكون العسكري بأنه يحاول الانفراد بالسلطة، وإبعاد المكون المدني بشتى السبل، خصوصاً عندما يستجيب لاستفزازاتهم. ووصل هذا النقد مرحلة متقدمة بعد المحاولة الانقلابية ووقوف بعض زعماء الحركات المسلحة مع المكون العسكري، ووصف جبريل إبراهيم زعيم حزب وحركة العدل والمساواة، وزير المالية في الفترة الانتقالية، ومني أركو مناوي رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، المعين حديثاً حاكماً عاماً لإقليم دارفور بأنهما وقعا تحت إمرة العسكر.
ديمقراطية ناقصة
يحذِر المطلب الأميركي من الانحراف عن المسار القائم فعلاً، ويدعو إلى إزالة التوترات، وربما التطور الطفيف في المطلب الأميركي هو تولي شخصية مدنية رئاسة المجلس، ولكن لماذا لم تطالب الولايات المتحدة بأكثر من ذلك، وتجربة الحكم التوافقية في حد ذاتها ليست ديمقراطية كاملة، وإنما هي بديل عن الديمقراطية الليبرالية، لأجل معلوم وفي حالة الضرورة لحماية البلاد من الانهيار في ظل الحروب والنزاعات والفراغ التشريعي.
ربما ترى الولايات المتحدة أن الديمقراطية بصيغتها الغربية قد لا تكون ملائمة للوضع السوداني الحالي، فالنظام التوافقي هو الخيار الأقرب والأفضل في الوقت الراهن، للظروف المذكورة، ولكن ليس بسبب الأقليات المذهبية أو الإثنية، بل إن وفرة الأقليات في كل الأقاليم خلق من السودان بلداً متعدداً ومتنوع المكونات، ولذا ينتفي هنا حكم الأغلبية على الأقلية لصالح التنوع.
أُسست هذه التجربة التوافقية بناءً على توقّع إخفاق الديمقراطية في السودان بشكل عام، ولكن حاد النمط المرسوم ابتداءً عن مبدأ التوافق الائتلافي بين مكونات المجتمع وإعطائهم فرصة للمشاركة، وبدأت مؤشرات ومعطيات تركيبة الحكومة الانتقالية في التراجع عن الحفاظ على درجة التوافق، فتم الاستقطاب واقتسام السلطة بين الأحزاب السياسية والمكون العسكري والحركات المسلحة، وهو عين ما كان يقوم به النظام السابق، فكلما اشتد عليه التضييق الدولي، ينشىء حكومة ائتلافية ويقتسم السلطة مع المعارضة. الآن المجتمع السوداني والقوى الثورية الممثلة له تشعر أنها ليست شريكة في السلطة، وخارج دائرة اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي ، فانعدمت الثقة بينهم وبين الحكومة وبدأ ضغط القوى الثورية يتفاقم على المكونين المدني والعسكري، ففعلا دفاعهما بالهجوم الحاد على بعضهما وتبادل التراشق الإعلامي والاتهامات.
تمرين ديمقراطي
إن كانت الديمقراطية التوافقية هي أولى عتبات الديمقراطية الليبرالية، فإن الوصول إليها اعترضته بعض العوامل، أولها الضيق الشعبي الذي لازم النظام السابق، وبعد سقوطه تخيلت الجماهير تأسيس حكومة مستقرة، وهذا ما لم يحدث لأن النظام التوافقي يستلزم هدوء المعارضة إلى أن تتحقق الديمقراطية الليبرالية. إضافة إلى أن قوى الحرية والتغيير التي تعودت الجلوس على دكة المعارضة، لا تزال تحتفظ بمقعدها هناك وتشارك في الحكومة في آن واحد، وهذا ما كاد يهدم المجلس الانتقالي خصوصاً مع غياب المجلس التشريعي وعدم وجود قوانين منظمة للعمل السياسي. العامل الثاني، يتمثل في بطء اتخاذ القرارات وتنفيذها وعرقلتها لا لسبب إلا لإظهار كل طرف بأنه موجود وله كلمته. والعامل الثالث أنه بدلاً من أن يقدم المكونان المدني والعسكري بعض التنازلات، وجد الشعب نفسه هو الذي يقدم التنازلات عن المطالب الأساسية المتعلقة بالوضع الاقتصادي والحريات وغيرها. العامل الرابع هو الاندماج بين الأحزاب الطائفية، وقوى وجماعات تيار الإسلام السياسي المتمثلة في أعضاء النظام السابق وبعض الأحزاب الإسلامية الموجودة على الساحة السياسية، التي تحاول تذويب أيديولوجيتها من خلال هذا الاندماج.
تمثل هذه الفترة فرصة للتمرين على الديمقراطية وتقبل نتائجها أياً كانت، بالالتزام بالشروط التمهيدية التي تسمح بالتطور نحو الديمقراطية. ولكن نسبة لتعثر الحكومة الحالية وافتقادها إلى التراضي الوطني حول هذه الفترة المؤقتة، ومحاولة فرض الأثوقراطية الفردية من المكونين، فإنه أمام هذه الانتكاسة وعدم الالتزام بالمباديء والقواعد لضمان سلامة العملية الديمقراطية، يصبح من الصعب الحلم بديمقراطية ليبرالية.
ربما تعيد هذه التجربة، وهي ليست حديثة على التاريخ السياسي السوداني، التجارب السابقة ذاتها بانتكاستها فيعقبها انقلاب وعودة نظام عسكري، ما لم يحدث نوع من التوازن السياسي في السلطة بتخفيف نسبة ممثلي الأحزاب السياسية لصالح المكونات الاجتماعية الأخرى وتوزير التكنوقراط. ويتبدى سر التركيز الأميركي على الديمقراطية التوافقية باعتبارها الأنسب للسودان لأنها تشكل مانعاً لأزمات التهميش السياسى في بلد منقسم إثنياً وطائفياً، إضافة إلى مشكلاته الاقتصادية، وكمضاد للانفصال بين مكونات الدولة الوطنية. وربما يكون الطريق طويلاً نوعاً ما، قبل الوصول إلى حالة التوافق الديمقراطي بتنظيم هذا التعدد في إطار الوحدة.
منى عبدالفتاح