الجمعة 15 أكتوبر 2021 - 12:25
د. مرتضي الغالي يكتب: العبادي  “فوق قلبي خلف الكي


وحكاية العبادي مع الدوبيت )أوالدوباي على الأصح( الذي كان سائداً بين شعراء تلك الفترة قصة طويلة؛ وله في هذا الجنس الأدبي الشعبي ملكة وافرة عريضة، ويكفى أنه كتب مسرحيات كاملة بهذا الضرب الإبداعي..ومن هنا جاء ابتكار الرميات في تلك الفترة. حيث كانت الأغاني فيها قبل دخول )الفونوغراف( مرتبطة بالحفلات والمحافل..
وللرميات غير )الاستهلال والاستفتاح( وظائف متصلة بحركة الرقص المصاحب الذي تبدأ طقوسه باستعداد الفتاة للدخول إلى “الدارة” )منتصف المسرح الافتراضي ومسقط الضوء ومهوى الأفئدة ومثوى السباتة(، وهذا التهيؤ من الفتاة الراقصة فيه )حركات وحركات( تساير وتستغرق وقت الرمية قبل دخول المغنين إلى )متن الأغنية( ومرحلتي التقيل والخفيف..التقيل حيث )الفدعة والهكعة والموحة والخنتلة والميسان ونكعة الشبال(، ثم الخفيف الذي يتيح للراقصة )الزهزهة( الأخيرة قبل الخروج اللطيف و)الانسحاب الفني( من مسرح الحدث والعودة إلى قواعدها سالمة..! وكان العبادي جباراً في صياغته للرميات رغم أن ود الرضي وعمر البنا من أصحاب الرصيد الأوفر في الرميات..مع أنهم جميعاً كانوا من أصحاب الإبداع فيها )كلكم طالب صيد.. غير عمر بن عبيد(..!
العبادي له تصويره وطريقته ولغته الخاصة في الرميات )الجرحو نوسر بَي..غوّر في الضمير فوق قلبي خلف الكي.. يا ناس الله لي../ كان ما الشي قسم وأنا عقلي مداير/ ليه عاشق المدلل بيهو شن داير..?/ يمشي للكي قبل وينسف الداير/ والديس الغزير لي قامتو يضاير/ والمحيا المتل قمر العشا الداير/ ويتب بي عجن.. ويقول لي شن داير؟ رحماك يا عشوق طاش الفكر حاير(..! طبعاً للعبادي رميات أُخر مثل )انقسمت مشت طالبانا( و)وقفت شي عجيب في الداره/ وأسفرت اللثام عن داره(..يعني دارة القمر، وقد استشهد بهذه الرمية الأمين علي مدني في كتابه أعراس ومآتم دليلاً على إسهام أغنية الحقيبة في أن يكون الشعر ابن بيئته وليس تقليداً بنائياً جامداً يحاكي الشعر العربي القديم..!
وهذا يذكّرنا بالتشبيه المقلوب عند العبادي من عينة )اقتبس البدر من آمنة نوره ودارتو/ والخز والذهب عار من جسيما نضارتو/ والدُر حين نُسب لي فاها شوفو قدارتو/ أضحى على الرءوس يُحمل ونافذة إدارتو..(..!! وهناك أيضاً من رمياته )جات تتمايل العرجونة.. البي هوى النفوس معجونة(…إلخ، وفي ذلك مزج للوصف المعنوي بالحسي..
بمعنى أن غرامها معجون بالنفس..وهذا ليس بدعة في مهارة أخيلة شعراء المرحلة..وسيد عبد العزيز له هذا المعنى في التعبير عن قوة اللواعج حيث يشكو في أغنية )أنا ما معيون( بمزيج من الأمل واليأس )وأملي بكل قماح معجون/ وموتي دنا وسببي العرجون..(! الشعراء والمغنون في تلك الفترة استطاعوا أن يملأوا الساحة العامة بأنفاس الطلاقة وإثراء الحياة والتغني بالجمال وإسعاد الناس وشحنهم بالأمل، بل وبالوطنية في وقت لم تنشأ فيه بعد الأحزاب السياسية وحينها لم تتشكل الحركة الوطنية بعد عبر مؤتمر الخريجين، ولكنهم عاشوا زخم أحداث ثورة 24 وما قبلها وما بعدها..
ولابد من نظرة أخرى إلى مقطع من أغنية العبادي )نظرة يا ظبية السلام( يحمل إشارة قوية وكأنه يستحث الشعب ويقول: لقد شارف أوان الهبة ضد الاحتلال )انتي صار طبعك النفور..والصدود أضحي بي وفور.. آن بُرقعنا للسفور..والقدور أوشكت تفور(..!!
نحن ننظر أحياناً إلى غناء تلك الفترة ونصفه بأنه مجرد )غناء حسّي( ينم عن الحرمان وضيق الماعون وقلة الحيلة وهذه )فرية( سنعود إلى بيانها يوماً ما..ويغيب عن بعضنا أن هؤلاء القوم كانوا يعيشون بروح عالية ومفاكهة وإحساس بالجمال واستبشار بالحياة واقتناص المسرات ولهم حكايات وروايات عن )المعشوقات والمحظيات(، بل ومسايرة واردات العصر من فنون )التصوير والرسم والتشكيل(، ومن ذلك أن طائفة من شعراء الحقيبة تلاقوا في جلسة أنس في صالون أحد وجهاء المجتمع واتجهت أنظارهم إلى صورة في إطار لخواجية حسناء..
و)طلعت في رءوسهم( أن يعقدوا مسابقة أو مناظرة يدلي كل واحد من )الأربعة الكبار( )The Big Four( كما يُقال عن وكالات الأنباء العالمية الكبرى بمربوع شعري في وصف الصورة..والأربعة )العتاولة( هم )خليل فرح ويوسف حسب الله “سلطان العاشقين” والعبادي ومحمد عثمان بدري(، وكانت مسابقة لها شروطها ولها جائزة وطاقم من المحكّمين )قيل أن بينهم امرأة( للفصل في المنافسة، )قالوا إن جائزتها كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني(..!!
وخلاصة الحكاية أن العبادي فاز بقصب السبق بإجماع المُحكّمين بقوله في حسناء الصورة: ) شوف ريمة أرام كيف جالسه في التصويره/ محيَها كالبدر في النورَه والتدويره/ انظر لي عيونا ودعجتا وتحويره/ من كُتر الدلال..تنشاف عويره عويره(.!!