الثلاثاء 23 نوفمبر 2021 - 15:30
القاهرة – أصبح راسخا في أذهان القوى المدنية بالسودان أن مصر كانت مساندة لانقلاب قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان، ولم يفلح بيانها الأول في الدعوة إلى ضبط النفس والحفاظ على أمن واستقرار السودان في إقناع هذه القوى بأنها على مسافة واحدة من العسكريين والمدنيين، كما أخفق بيانها الثاني الأحد، بعد التوقيع على اتفاق سياسي أعاد رئيس الحكومة عبدالله حمدوك في تبديد هواجس سابقة، والذي ثمّن هذه الخطوة التي أنهت أزمة محتدمة عصفت بالبلاد.
لم يفلح النأي المصري الظاهر عن أزمات السودان الداخلية في تكذيب المعلومات المتداولة حول دعمها قائد الجيش أو تفضيلها التعامل معه، من واقع الأهمية الحيوية التي تقوم بها الجيوش في الحفاظ على الأمن القومي للدول، وليس حبا في البرهان أو كرها في حمدوك.
زادت الفداحة السياسية مع نشر صحيفة “وول ستريت جورنال” بعد أيام قليلة من انقلاب البرهان معلومات أشارت إلى قيامه بزيارة سرية إلى القاهرة عشية الانقلاب، وأنه تلقى تطمينات من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بالوقوف معه ودعم خطوته.
مصر عليها البحث عن طريقة لا تحصر رهاناتها على الجنرالات لأن الفترة المقبلة قد تشهد انخفاضا في أدوارهم السياسية
وقالت الصحيفة الأميركية إن مدير المخابرات المصرية اللواء عباس كامل زار الخرطوم قبل الانقلاب، والتقى البرهان وأبلغه أن “حمدوك يجب أن يرحل”، معربا عن استياء المصريين منه بسبب انفتاحه على إثيوبيا في قضية سدّ النهضة.
تفاعلت هذه المعطيات سريعا، ولم تجد من القاهرة ردودا تدحضها، أو تثبت أنها على مسافة واحدة من القوى المتصارعة سياسيا في السودان، وجاء عدم توقيع مصر على البيان الرباعي الذي أصدرته الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، ليضاعف من شكوك القوى المدنية في النوايا المصرية، حيث طالب البيان البرهان بالتراجع عن عزل حمدوك والعودة إلى ما قبل إجراءات الخامس والعشرين من أكتوبر.
وكان رد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن على عدم توقيع القاهرة على البيان مراوغا، حيث طلب من الصحافيين توجيه السؤال إلى وزير الخارجية المصري سامح شكري، والذي أجاب بطريقة غائمة، فحواها أن بلاده لم تأخذ علما مسبقا به، ولم تشارك في صياغته، وعززت إجابة بلينكن الفضفاضة، وإجابة شكري غير المقنعة بأن القاهرة لم تكن موافقة على الصياغة التي خرج بها البيان، والتي انحازت بوضوح إلى جانب القوى المدنية، وحملت إدانة لإجراءات البرهان.
وبدا الموقف مثيرا عندما أفصحت وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي )المعزولة( أنها خاطبت سامح شكري بعد الانقلاب فلم يرد على اتصالاتها، ما ترك غصة في حلقها وحلق قوى مدنية عديدة تأكدت أن مصر تقف في صف البرهان.
النوايا المصرية غير واضحة
جرت تقلّبات كثيرة في الأزمة السودانية والتزمت القاهرة الصمت في غالبية الأسئلة الساخنة التي ترددت في أوساط سودانية بعد الانقلاب، وحتى الدور الذي حاولت أن تلعبه الجامعة العربية، بما يشبه النيابة عن مصر، في وساطة كانت تعتزم القيام بها الجامعة عندما أوفدت مساعد أمينها العام السفير حسام زكي، لم تلق تأييدا، وانتهت إلى عبارات من نوعية ضبط النفس، والاحتكام لصوت العقل، والحفاظ على استقرار السودان.
تركت الأزمة انطباعات سلبية عن موقف مصر لدى القوى المدنية في السودان، تحتاج إلى جهود كبيرة لإذابة الشكوك والالتباسات التي خيمت عليها، لأن حمدوك عاد على رأس الحكومة وقد لا يكون مرتاحا كثيرا في التعامل مع دولة تراه معرقلا لمصالحها، ما يعني أن القاهرة تواجه إشكالية جديدة في إعادة صياغة علاقتها مع الخرطوم بعد أن قطعت شوطا في تطويرها عقب سقوط نظام البشير.
يذكّر الموقف الراهن بموقف سابق واجهته القيادة المصرية في يونيو 1989 عندما وقع انقلاب عسكري في السودان، وأعلنت القاهرة تأييده مبكرا، ثم اكتشفت أن زعيم الحركة الإسلامية )الراحل( حسن الترابي يقف خلفه.
وتحول حكم الجيش هناك إلى حكم بصبغة إسلامية، ظلت مصر تعاني من تداعياته القاتمة فترة طويلة، ولم تصل إلى مرحلة وئام مع حكم البشير، وعندما رحل بموجب ثورة شعبية منذ حوالي عامين لعب فيها البرهان دورا مهما اعتقدت أنها تخلصت من كابوس سياسي أزعجها طويلا، ووجدت رجلها الصحيح في السودان.
يواجه البرهان امتحانا قاسيا الآن، فقد أثبتت تفاعلات أزمة الانقلاب على السلطة المدنية في جروح سياسية للجيش في الداخل والخارج، حيث فقد الكثير من رصيده في الوجدان العام وخسر جانبا من الرصيد الذي كسبه بانحيازه للشعب، على الرغم من أن دوره ما زال رئيسيا في معادلة السلطة.
تبدو المشكلة بالنسبة إلى مصر حاليا مزدوجة، فهي مطالبة بالحفاظ على نسق علاقتها القوية مع البرهان، واستعادة الثقة مع حمدوك والتي يمكن أن تكون أجزاء كبيرة منها قد تبددت مع ما وصل إليه من معلومات وتخمينات وتكهنات وشائعات بشأن عدم تفضيل القاهرة له، وهي مسألة تحتاج من القاهرة إلى مرونة عالية، واستدارة كبيرة تنهي بها المخاوف التي تسيطر على قطاع كبير من القوى المدنية في السودان.
يتطلب حفاظ مصر على علاقة قوية مع البرهان زيادة الاعتماد على الجيش كمؤسسة وليس كأشخاص، وهو النهج السليم الذي تتبعه الدولة المصرية في علاقاتها الخارجية عموما، لكن التركيز على قائد الجيش في بعض الأحيان تسبب في المشكلة الراهنة، والتي من المهم فك عقدها سريعا، حيث يمثل السودان حيوية استراتيجية لمصر، يصعب تقبل فتور في العلاقة مع الطبقة الحاكمة فيه، سواء أكانت عسكرية أم مدنية.
حمدوك عاد على رأس الحكومة وقد لا يكون مرتاحا كثيرا في التعامل مع دولة تراه معرقلا لمصالحها
يبقى السؤال كيف تتخلص القاهرة مما رسخ في أذهان القوى المدنية جراء التطورات التي أفرزتها الأزمة الأخيرة، والتي يمكن أن تخرج الخلافات المكتومة إلى العلن، إذا لم تتمكن من تصحيح مسار العلاقات مع حمدوك، وثبت أنه رقم محوري في معادلة السلطة بشقيها الداخلي والخارجي، إذ انصبت غالبية ردود الأفعال على عدم التفريط في عودته، وباتت رمزا للديمقراطية والحكم المدني في السودان.
حصد حمدوك مزايا سياسية تفوق تلك التي يمكن أن يكون خسرها واستطاع بما امتلكه من مرونة عالية ترسيخ أقدامه خلال المرحلة الانتقالية وربما بعدها، ما يفيد أن مصر مضطرة للتعامل معه وتخفيف حدة الاحتقان الذي خلفته أزمة عزله، وما صاحبها من رذاذ سياسي كانت القاهرة في بؤرته نتيجة رواج فكرة عدم ارتياحها له.
قطعت مصر شوطا كبيرا في تطوير العلاقات مع السودان يمكن أن يتأثر سلبا ما لم تجد صيغة جيدة للتفاهم مع حمدوك، وتوازن بين شغفها بالتعويل على دور الجيوش، وبين الدور الصاعد للقوى المدنية في المنطقة وليس في السودان فقط، وهي الرسالة التي توحي بأن ثمة تحولات في المنظومة الإقليمية قد لا تكون فيها المؤسسة العسكرية في أي دولة هي المهيمن الوحيد على مقاليد الأمور.
تواجه مصر هذه المعادلة في السودان، وتواجهها بدرجات مختلفة أيضا في ليبيا، ويمكن أن تواجهها في دول عربية أخرى، ما يفرض عليها البحث عن طريقة لا تحصر رهاناتها على الجنرالات، لأن الفترة المقبلة من المرجح أن تشهد انخفاضا في أدوار قادة الجيوش السياسية، ويعد الموقف من السودان بعد تجاوز محنة البرهان – حمدوك اختبارا لقدرة النظام المصري على التعامل مع جميع القوى بطريقة متوازنة.
القاهرة – أصبح راسخا في أذهان القوى المدنية بالسودان أن مصر كانت مساندة لانقلاب قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان، ولم يفلح بيانها الأول في الدعوة إلى ضبط النفس والحفاظ على أمن واستقرار السودان في إقناع هذه القوى بأنها على مسافة واحدة من العسكريين والمدنيين، كما أخفق بيانها الثاني الأحد، بعد التوقيع على اتفاق سياسي أعاد رئيس الحكومة عبدالله حمدوك في تبديد هواجس سابقة، والذي ثمّن هذه الخطوة التي أنهت أزمة محتدمة عصفت بالبلاد.
لم يفلح النأي المصري الظاهر عن أزمات السودان الداخلية في تكذيب المعلومات المتداولة حول دعمها قائد الجيش أو تفضيلها التعامل معه، من واقع الأهمية الحيوية التي تقوم بها الجيوش في الحفاظ على الأمن القومي للدول، وليس حبا في البرهان أو كرها في حمدوك.
زادت الفداحة السياسية مع نشر صحيفة “وول ستريت جورنال” بعد أيام قليلة من انقلاب البرهان معلومات أشارت إلى قيامه بزيارة سرية إلى القاهرة عشية الانقلاب، وأنه تلقى تطمينات من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بالوقوف معه ودعم خطوته.
مصر عليها البحث عن طريقة لا تحصر رهاناتها على الجنرالات لأن الفترة المقبلة قد تشهد انخفاضا في أدوارهم السياسية
وقالت الصحيفة الأميركية إن مدير المخابرات المصرية اللواء عباس كامل زار الخرطوم قبل الانقلاب، والتقى البرهان وأبلغه أن “حمدوك يجب أن يرحل”، معربا عن استياء المصريين منه بسبب انفتاحه على إثيوبيا في قضية سدّ النهضة.
تفاعلت هذه المعطيات سريعا، ولم تجد من القاهرة ردودا تدحضها، أو تثبت أنها على مسافة واحدة من القوى المتصارعة سياسيا في السودان، وجاء عدم توقيع مصر على البيان الرباعي الذي أصدرته الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، ليضاعف من شكوك القوى المدنية في النوايا المصرية، حيث طالب البيان البرهان بالتراجع عن عزل حمدوك والعودة إلى ما قبل إجراءات الخامس والعشرين من أكتوبر.
وكان رد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن على عدم توقيع القاهرة على البيان مراوغا، حيث طلب من الصحافيين توجيه السؤال إلى وزير الخارجية المصري سامح شكري، والذي أجاب بطريقة غائمة، فحواها أن بلاده لم تأخذ علما مسبقا به، ولم تشارك في صياغته، وعززت إجابة بلينكن الفضفاضة، وإجابة شكري غير المقنعة بأن القاهرة لم تكن موافقة على الصياغة التي خرج بها البيان، والتي انحازت بوضوح إلى جانب القوى المدنية، وحملت إدانة لإجراءات البرهان.
وبدا الموقف مثيرا عندما أفصحت وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي )المعزولة( أنها خاطبت سامح شكري بعد الانقلاب فلم يرد على اتصالاتها، ما ترك غصة في حلقها وحلق قوى مدنية عديدة تأكدت أن مصر تقف في صف البرهان.
النوايا المصرية غير واضحة
جرت تقلّبات كثيرة في الأزمة السودانية والتزمت القاهرة الصمت في غالبية الأسئلة الساخنة التي ترددت في أوساط سودانية بعد الانقلاب، وحتى الدور الذي حاولت أن تلعبه الجامعة العربية، بما يشبه النيابة عن مصر، في وساطة كانت تعتزم القيام بها الجامعة عندما أوفدت مساعد أمينها العام السفير حسام زكي، لم تلق تأييدا، وانتهت إلى عبارات من نوعية ضبط النفس، والاحتكام لصوت العقل، والحفاظ على استقرار السودان.
تركت الأزمة انطباعات سلبية عن موقف مصر لدى القوى المدنية في السودان، تحتاج إلى جهود كبيرة لإذابة الشكوك والالتباسات التي خيمت عليها، لأن حمدوك عاد على رأس الحكومة وقد لا يكون مرتاحا كثيرا في التعامل مع دولة تراه معرقلا لمصالحها، ما يعني أن القاهرة تواجه إشكالية جديدة في إعادة صياغة علاقتها مع الخرطوم بعد أن قطعت شوطا في تطويرها عقب سقوط نظام البشير.
يذكّر الموقف الراهن بموقف سابق واجهته القيادة المصرية في يونيو 1989 عندما وقع انقلاب عسكري في السودان، وأعلنت القاهرة تأييده مبكرا، ثم اكتشفت أن زعيم الحركة الإسلامية )الراحل( حسن الترابي يقف خلفه.
وتحول حكم الجيش هناك إلى حكم بصبغة إسلامية، ظلت مصر تعاني من تداعياته القاتمة فترة طويلة، ولم تصل إلى مرحلة وئام مع حكم البشير، وعندما رحل بموجب ثورة شعبية منذ حوالي عامين لعب فيها البرهان دورا مهما اعتقدت أنها تخلصت من كابوس سياسي أزعجها طويلا، ووجدت رجلها الصحيح في السودان.
يواجه البرهان امتحانا قاسيا الآن، فقد أثبتت تفاعلات أزمة الانقلاب على السلطة المدنية في جروح سياسية للجيش في الداخل والخارج، حيث فقد الكثير من رصيده في الوجدان العام وخسر جانبا من الرصيد الذي كسبه بانحيازه للشعب، على الرغم من أن دوره ما زال رئيسيا في معادلة السلطة.
تبدو المشكلة بالنسبة إلى مصر حاليا مزدوجة، فهي مطالبة بالحفاظ على نسق علاقتها القوية مع البرهان، واستعادة الثقة مع حمدوك والتي يمكن أن تكون أجزاء كبيرة منها قد تبددت مع ما وصل إليه من معلومات وتخمينات وتكهنات وشائعات بشأن عدم تفضيل القاهرة له، وهي مسألة تحتاج من القاهرة إلى مرونة عالية، واستدارة كبيرة تنهي بها المخاوف التي تسيطر على قطاع كبير من القوى المدنية في السودان.
يتطلب حفاظ مصر على علاقة قوية مع البرهان زيادة الاعتماد على الجيش كمؤسسة وليس كأشخاص، وهو النهج السليم الذي تتبعه الدولة المصرية في علاقاتها الخارجية عموما، لكن التركيز على قائد الجيش في بعض الأحيان تسبب في المشكلة الراهنة، والتي من المهم فك عقدها سريعا، حيث يمثل السودان حيوية استراتيجية لمصر، يصعب تقبل فتور في العلاقة مع الطبقة الحاكمة فيه، سواء أكانت عسكرية أم مدنية.
حمدوك عاد على رأس الحكومة وقد لا يكون مرتاحا كثيرا في التعامل مع دولة تراه معرقلا لمصالحها
يبقى السؤال كيف تتخلص القاهرة مما رسخ في أذهان القوى المدنية جراء التطورات التي أفرزتها الأزمة الأخيرة، والتي يمكن أن تخرج الخلافات المكتومة إلى العلن، إذا لم تتمكن من تصحيح مسار العلاقات مع حمدوك، وثبت أنه رقم محوري في معادلة السلطة بشقيها الداخلي والخارجي، إذ انصبت غالبية ردود الأفعال على عدم التفريط في عودته، وباتت رمزا للديمقراطية والحكم المدني في السودان.
حصد حمدوك مزايا سياسية تفوق تلك التي يمكن أن يكون خسرها واستطاع بما امتلكه من مرونة عالية ترسيخ أقدامه خلال المرحلة الانتقالية وربما بعدها، ما يفيد أن مصر مضطرة للتعامل معه وتخفيف حدة الاحتقان الذي خلفته أزمة عزله، وما صاحبها من رذاذ سياسي كانت القاهرة في بؤرته نتيجة رواج فكرة عدم ارتياحها له.
قطعت مصر شوطا كبيرا في تطوير العلاقات مع السودان يمكن أن يتأثر سلبا ما لم تجد صيغة جيدة للتفاهم مع حمدوك، وتوازن بين شغفها بالتعويل على دور الجيوش، وبين الدور الصاعد للقوى المدنية في المنطقة وليس في السودان فقط، وهي الرسالة التي توحي بأن ثمة تحولات في المنظومة الإقليمية قد لا تكون فيها المؤسسة العسكرية في أي دولة هي المهيمن الوحيد على مقاليد الأمور.
تواجه مصر هذه المعادلة في السودان، وتواجهها بدرجات مختلفة أيضا في ليبيا، ويمكن أن تواجهها في دول عربية أخرى، ما يفرض عليها البحث عن طريقة لا تحصر رهاناتها على الجنرالات، لأن الفترة المقبلة من المرجح أن تشهد انخفاضا في أدوار قادة الجيوش السياسية، ويعد الموقف من السودان بعد تجاوز محنة البرهان – حمدوك اختبارا لقدرة النظام المصري على التعامل مع جميع القوى بطريقة متوازنة.