الخميس 10 فبراير 2022 - 14:39
سورة الإسراء
‏آية 85
تفسير ابن كثير
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً )85(
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله - هو ابن مسعود رضي الله عنه - قال : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث في المدينة ، وهو متوكئ على عسيب ، فمر بقوم من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح . فقال بعضهم : لا تسألوه . قال : فسألوه عن الروح فقالوا يا محمد ، ما الروح ؟ فما زال متوكئا على العسيب ، قال : فظننت أنه يوحى إليه ، فقال :) ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (
فقال بعضهم لبعض : قد قلنا لكم لا تسألوه .
وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش ، به . ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية ، عن عبد الله بن مسعود قال : بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث ، وهو متوكئ على عسيب ، إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، فقال : ما رابكم إليه . وقال بعضهم : لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه . فقالوا سلوه فسألوه عن الروح ، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا ، فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامي ، فلما نزل الوحي قال :) ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي (الآية .
وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الآية مدنية ، وأنها إنما نزلت حين سأله اليهود ، عن ذلك بالمدينة ، مع أن السورة كلها مكية . وقد يجاب عن هذا : بأنه قد يكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك ، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوا بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية :) ويسألونك عن الروح (ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ما قال الإمام أحمد :
حدثنا قتيبة ، حدثنا يحيى بن زكريا ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود : أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل . فقالوا : سلوه عن الروح . فسألوه ، فنزلت :) ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (قالوا : أوتينا علما كثيرا ، أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا . قال : وأنزل الله :) قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا (] الكهف : 109 [.
وقد روى ابن جرير ، عن محمد بن المثنى ، عن عبد الأعلى ، عن داود ، عن عكرمة قال : سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فأنزل الله :) ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (فقالوا يزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة) ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا (؟] البقرة : 269 [قال : فنزلت :) ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله (] لقمان : 27 [. قال : ما أوتيتم من علم ، فنجاكم الله به من النار ، فهو كثير طيب وهو في علم الله قليل .
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة :) وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، أتاه أحبار يهود . وقالوا يا محمد ، ألم يبلغنا عنك أنك تقول :) وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (أفعنيتنا أم عنيت قومك ؟ فقال :" كلا قد عنيت ". قالوا : إنك تتلو أنا أوتينا التوراة ، وفيها تبيان كل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" هي في علم الله قليل ، وقد آتاكم ما إن عملتم به استقمتم "، وأنزل الله :) ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم (] لقمان : 27 [.
وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا على أقوال :
أحدها : أن المراد] بالروح [: أرواح بني آدم .
قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله :) ويسألونك عن الروح (الآية ، وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرنا عن الروح ؟ وكيف تعذب الروح التي في الجسد ، وإنما الروح من الله ؟ ولم يكن نزل عليه فيه شيء ، فلم يحر إليهم شيئا . فأتاه جبريل فقال له :) قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقالوا : من جاءك بهذا ؟ فقال :" جاءني به جبريل من عند الله ؟ "فقالوا له : والله ما قاله لك إلا عدو لنا . فأنزل الله :) قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله] مصدقا لما بين يديه [(الآية] البقرة : 97 [.
وقيل : المراد بالروح هاهنا : جبريل . قاله قتادة ، قال : وكان ابن عباس يكتمه .
وقيل : المراد به هاهنا : ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها . قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله :) ويسألونك عن الروح (يقول : الروح : ملك .
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس المصري ، حدثنا وهب بن رزق أبو هريرة حدثنا بشر بن بكر ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا عطاء ، عن عبد الله بن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن لله ملكا ، لو قيل له : التقم السماوات السبع والأرضين بلقمة واحدة ، لفعل ، تسبيحه : سبحانك حيث كنت ".
وهذا حديث غريب ، بل منكر .
وقال أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : حدثني علي ، حدثني عبد الله ، حدثني أبو نمران يزيد بن سمرة صاحب قيسارية ، عمن حدثه عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال في قوله :) ويسألونك عن الروح (قال : هو ملك من الملائكة ، له سبعون ألف وجه ، لكل وجه منها سبعون ألف لسان ، لكل لسان منها] سبعون [ألف لغة ، يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ، يخلق الله من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة .
وهذا أثر غريب عجيب ، والله أعلم .
وقال السهيلي : روي عن علي أنه قال : هو ملك ، له مائة ألف رأس ، لكل رأس مائة ألف وجه ، في كل وجه مائة ألف فم ، في كل فم مائة ألف لسان ، يسبح الله تعالى بلغات مختلفة .
قال السهيلي : وقيل المراد بذلك : طائفة من الملائكة على صور بني آدم .
وقيل : طائفة يرون الملائكة ولا تراهم فهم للملائكة كالملائكة لبني آدم .
وقوله :) قل الروح من أمر ربي (أي : من شأنه ، ومما استأثر بعلمه دونكم ؛ ولهذا قال :) وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (أي : وما أطلعكم من علمه إلا على القليل ، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى .
والمعنى : أن علمكم في علم الله قليل ، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى ، ولم يطلعكم عليه ، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى . وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر : أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة ، فنقر في البحر نقرة ، أي : شرب منه بمنقاره ، فقال : يا موسى ، ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر . أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه ؛ ولهذا قال تبارك وتعالى :) وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (
وقال السهيلي : قال بعض الناس : لم يجبهم عما سألوا ؛ لأنهم سألوا على وجه التعنت . وقيل : أجابهم ، وعول السهيلي على أن المراد بقوله :) قل الروح من أمر ربي (أي : من شرعه ، أي : فادخلوا فيه ، وقد علمتم ذلك لأنه لا سبيل إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة ، وإنما ينال من جهة الشرع . وفي هذا المسلك الذي طرقه وسلكه نظر ، والله أعلم .
ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس ، أو غيرها ، وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء ، سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر . وقرر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن ، واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم ، فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء . قال : كما أن الماء هو حياة الشجر ، ثم يكسب بسبب اختلاطه معها اسما خاصا ، فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار إما مصطارا أو خمرا ، ولا يقال له :" ماء "حينئذ إلا على سبيل المجاز ، وهكذا لا يقال للنفس :" روح "إلا على هذا النحو ، وكذلك لا يقال للروح : نفس إلا باعتبار ما تئول إليه . فحاصل ما يقول أن الروح أصل النفس ومادتها ، والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن ، فهي هي من وجه لا من كل وجه وهذا معنى حسن ، والله أعلم .
قلت : وقد تكلم الناس في ماهية الروح وأحكامها وصنفوا في ذلك كتبا . ومن أحسن من تكلم على ذلك الحافظ ابن منده ، في كتاب سمعناه في : الروح .




ــــــــــــــــــ
الحديبة نيوز
.....‏
للاعلان بهذه المساحة واتساب
0919496619