الثلاثاء 1 مارس 2022 - 8:11

الخرطوم: عبد الناصر الحاج / مآب الميرغني
لم يكن نهار الـ28 من فبراير عادياً مثل مليونيات "يناير" الماضي رغم قوتها وشراستها وتساقط الشهداء بكثافة في ما يعرف بـ"مجازر" يناير عند الثوار، ولأن خواتيم فبراير هذه المرة شهدت "مليونيتها" أكبر عملية تطور نوعي في الحراك الثوري الذي تقوده لجان المقاومة، حيث نجح الثوار في كسر الطوق الأمني الذي بات هو العقبة الحقيقية أمام مسارات الحراك المتجهة صوب القصر منذ "مليونية" الـ25 من ديسمبر الماضي، عندما بلغ الثوار محيط القصر للمرة الثانية بعد "الأولى" العاتية التي كانت في يوم عيد الثورة في التاسع عشر من ديسمبر، وقد سبق مليونية الـ28 من فبراير، حملة تدشين الإعلان عن ميثاق تأسيس سلطة الشعب من قبل لجان المقاومة، والذي أكدت فيه "المقاومة" التمسك بالنضال السلمي لإسقاط سلطة "انقلاب" الـ25 من أكتوبر، مع المُضي قُدماً في شعاراتها الثلاثلا تفاوض لا شراكة لا شرعية(، وكان يوم الـ26 من ذات الشهر الجاري شهد أيضاً تطوراً نوعياً في طبيعة التظاهرات التي تقودها لجان المقاومة، من خلال نجاح مليونية الآباء والأمهات والتي حملت عنوان )كلنا معكم(، حيث جسدت تلك المليونية تلاحماً وطنياً معبراً بين كل الأجيال من مختلف الأعمار، ولهذا جاءت مليونية الأمس وهي تحمل بين طياتها طاقة استثنائية جبارة دفعت الثوار لاجتياز كل الأطواق الأمنية في شارع القصر، وبلغوا ساحة القصر للمرة "الثالثة" على مرأى ومسمع عيون كل العالم وكل مناصري السلطة القائمة حالياً.
)1( المنطقة المحظورة
وفي ختام جدول مليونيات شهر فبراير، خرج الآلاف من الثوار السودانيين من العاصمة والولايات في موكب الأمس، منددين شعارات مناوئة تطالب قادة السلطة الانقلابية بالعودة للثكنات وتسليم السلطة فوراً للمدنيين، وفي مواصلة الطريق الذي عبدته أرواح شهداء ديسمبر المجيدة ومصابي الثورة التي لن تنكسر أمام الطغيان ومن هم ضد الثورة، وجاء الجديد في مواكب الأمس يحمل مسارين: ، أولها إعلان الميثاق السياسي الذي سبق المواكب قبيل يوم، الذي فيه تم إعلان الموكب تحت اسم "ميثاق تأسيس سلطة الشعب"، وثانيها أنه بخلاف الأيام السابقة أو السيناريوهات في المواكب السابقة و للمرة الثالثة استطاع الثوار من كسر الطوق الأمني، وبدلا من أن كانت منطقة محظورة أو منطقة محصورة ومحددة الوجهات نسباً الارتكازات الأمنية وإغلاق الطرق بالتاتشرات، تمكن الثوار خلال الساعات الأولى بحسب توقيت الثورة من كسر الخطوط الأمنية الأولى مروراً بشروني وعبوراً إلى جامعة الخرطوم وصولا إلى الطوق الثالث المريديان مع تقاطع شارع القصر، وشهد المريديان مع تقاطع القصر انهيار للطوق الأمني لقوات السلطات الانقلابية، أمام عزم واندفاع جموع ثوار الخرطوم، فرت القوات من الغضب البشري الذي لاحقهم، شهدت تحرير المنطقة المحظورة إطلاق الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية، قابلها الثوار بالحجارة مع إرجاع البمبان للقوات. ومع تفاؤلهم الذي عزم الوصول للقصر وتوجه الموكب صوباً في شارع القصر وسط الخرطوم نحو القصر الجمهوري، ورصدت )الجريدة( عدد من الصور والفيديوهات تظهر فيها بسالة الثوار أثناء تحرير المنطقة، والتي أوضحت أن الأعداد الضخمة عنوان لحراك الأمس، وقال أحد قادة الموكب الميدانيين في أثناء توجهه إلى القصر )عندما قلنا لهم سنلتقي غداً في القصر حتما كان لابد، مردداً نحنا واثقين من كسر هذا الطوق الأمني بكامل سلاح السلمية بالعزيمة والصبر وأن موكب الآباء والأمهات زادنا قوة وتمسكنا بالسلمية أكثر لمثل هذا اليوم، حاملاً بأيديه لافتة مكتوب عليها "الثورة طب السودان"( .
)2( من داخل القصر
كان الهدير الثوري صاخباً، وكانت "فرحة" الثوار بداخل محيط القصر تتقافز من فوق الأسوار العاتية تُرسل صداها في المدى الممدود بين القصر والشعب، رقصاً وطرباً وطبولاً وإشارات بعلامة النصر تلامس وجوه "الجنود" الذين تراصوا حول بوابة القصر وعيونهم غارقة في الاندهاش من تلك الجسارة التي لم يقرعها دوي القنابل الصوتية ولم يفتتها صوت الرصاص ولم يُسممها الغاز اللعين، وكانت )الجريدة( حضوراً هناك، تُدير عدسات كاميراتها لتوثيق تلك اللحظة الفاصلة بين الانتصار والسقوط، بين الزهو بالبطولات النادرة والتغريد خارج سرب المُخذلين والمُثبطين للهمم، ومن داخل محيط القصر الجمهوري تحدث عدد من الثوار لـ)الجريدة( وعبروا عن سعادتهم بالوصول إلى ساحة القصر بعد معارك ضارية استمرت طيلة شهر يناير، وكل ما مضى من فبراير، ومنهم من أهدى الوصول لساحة القصر إلى الشهداء الذين رحلوا من بعد الـ25 ديسمبر في رحلة الوصول للقصر الجمهوري، كما أن هناك ثوار تحدثوا لـ)الجريدة( عن أن الوصول هذه المرة يحمل دلالات سياسية متقدمة تؤكد بأن لجان المقاومة قد نهضت من جديد وتفرغت كلياً للمقاومة السلمية من بعد انجازها لميثاق سلطة الشعب وبعد أن تأكدت بأن غالبية الأسر السودانية تساند حراكهم الباسل، من خلال ما وجدوه من دعم ومساندة من الآباء والأمهات خلال مليونية )كلنا معكم(. وفي محيط القصر رفع الثوار شعارات الثورة المعهودة، لا تفاوض لا شراكة لا شرعية، وهتفوا ضد العسكر وضد البرهان وحميدتي، بيد أن اللافت في الأمر بأن الثوار كانوا يتحدثون إلى الجنود بلغة السياسة وأن حراكهم هذا لا يستهدف إقصائهم من المشهد، بل هو رغبة في بناء الدولة السودانية على أسس جديدة، ورغبة في تحرير جيش السودان ليكون جيشاً مهنياً قومياً يحمي الدستور ويحمي الانتقال المدني الديمقراطي.
)3( خارج الخرطوم
ولم تكن الخرطوم لوحدها أمس التي خرجت في موكب "ميثاق تأسيس سلطة الشعب"، بيد أن ثوار أمدرمان لم يغيب ثوار و لجان مقاومة إطلاقاً عن أي جدول حراك ثوري مُعلن ضد سلطة الانقلاب، " وفي مشهد حزين قدم شارع الأربعين إحتساب شهيداً الذي أعلنت عنه لجنة أطباء السودان المركزية أمس عن سقوط شهيد بمدينة أمدرمان إثر إصابته بالرصاص الحي في الرأس خلال مواكب 28 فبراير ما أدى إلى تهشم الجمجمة وتناثر أنسجة المخ. وقالت لجنة الأطباء في بيان لها أمس تتعرض مواكب مليونية 28 فبراير إلى قمع مفرط بالرصاص الحي من الأسلحة الثقيلة والخفيفة والقنابل الصوتية والغاز المسيل للدموع”. وأضافت “يتحدث المسعفون عن سقوط عشرات الإصابات أمام القصر الرئاسي بالخرطوم، كما تأكدنا من سقوط قنبلة غاز مسيل للدموع داخل غرفة العمليات بمستشفى الأربعين بأمدرمان في تعدٍ صريح وانتهاك لحرمة المستشفيات”. وأردفت “تحاصر السلطات المستشفيات وتمنع شعبنا عن التداوي بعد قمعه وذلك سلوك وحشي وغير إنساني ولا يمت للشرف والنزاهة والأخلاق بشئ، كما يعد انتهاك حرمات المستشفيات والمرافق الصحية من الكبائر يكاد يوازي قتل الأرواح السلمية”. وتابعت “إننا الآن نعمل بشكل دؤوب لحصر الإصابات التي تقع في مواكب العاصمة الخرطوم والولايات نتيجة عنف السلطات، ولم تتحصل الجريدة حتى كتابة هذه اللحظات من إحصائية بعدد الشهداء والمصابين. وفي الرابعة مساءاً أطلقت القوات الغاز المسيل للدموع بكثافة وشهد شارع الأربعين حالات كر و فر بين الثوار و القوات الأمنية وفي مشهد متكرر، استهدفت القوات مستشفي الأربعين بالحجارة والبمبان، مع سقوط عبوة بمبان داخل غرفة العمليات.
)4( عودة القمع
وبعد أن استراحت جموع الثوار في محيط القصر ومكثن نحو ساعتين أو أقل قليلاً بداخله، جاءت مواقيت الانسحاب المُعلن من قبل لجان المقاومة، وقرر الثوار الخروج الآمن، رفضاً لأية دعوات جانبية كانت تروج لفكرة الاعتصام، وتصدى الثوار بوعي كبير لهذه الأصوات التي تم الترويج لها من خارج ساحة القصر، وأكدوا على أن وصولهم لساحة القصر كان بغرض إرسال رسائل مهمة لجموع الشعب السوداني بأن الحراك ماضٍ في قوته وتماسكه وإيمانه بأهدافه ولن يردعه أية رادع، وكذلك كان بغرض – مثلما يقول الثوار- بأنه لإرسال رسائل للسلطة الانقلابية بأن الحراك الثوري يبتدئ من هذا اليوم، وأن لجان المقاومة لن تنشغل بعد إعلان ميثاقها إلا بوحدة الصف المعارض والمناهض للانقلاب، وفي الأثناء جاءت الأخبار بأن السلطات أعدت رتلاً من الجنود لإنقاذ، الموقف وهم في طريقهم للقصر، وتزامنت هذه الأخبار بعمليات إطلاق كثيف للغاز والقنابل الصوتية، مع سماع أصوات للرصاص، وبسرعة كبيرة نجح الثوار في الخروج من ساحة القصر وتفرقوا بين أزقة الخرطوم شرق رغم المطاردات الأمنية التي كانت تلاحقهم، لن لم تنل منهم.