الإثنين 11 أبريل 2022 - 0:10
الحلقة الأولى
رحلة سُودانير )302(
تأريخ بلادنا القريب حافل بأحداث بدأت معزولة لكنها احدثت تغييرات كبيرة على المستوى القومي.
الحادثة التي نحن بصدد التوثيق لها، بدأت مثل أية حادثة طيران عادية تحدث في مجاهل أفريقيا في وقت كانت صناعة النقل الجوي تواجه مصاعب كثيرة تتعلق بالملاحة الجوية وضعف المساعدات الأرضية.
بذلت جهداً كبيراً للوصول للشاهد الأول، مساعد الكابتن للرحلة المعنية، كابتن يوسف إبراهيم موسى، وأشكره على تعاونه الكبير معي وصبره على استقطاع دقائق من وقته الغالي ومشاغله الكبيرة.
طلب من القراء الأعزاء.. أرجو أن تقرأوا هذه الحلقات وتسقطوا كل تفاصيل هذه الرحلة على حال بلادنا الآن.. يقول كابتن يوسف أن 27 يوماً في أسر قوات الأنانيا عبدت الطريق لاتفاقية سلام أديس أبابا 1972.
توثيق: علي ميرغني
ديسمبر 1970 …..
وشمس الشتاء تلهب صالة المغادرة بمطار الخرطوم، الساعة تشير إلى الثانية بعد الظهر. أكثر من أربعين راكباً ينتظرون الصعود الى طائرة الخطوط الجوية السودانية المتجهة إلى ملكال جوبا.
لأسبابٍ غير ظاهرة يبدو التوتر على كابتن الطائرة، "كندي "الجنسية، الذي يدخل الصالة ويركل بعض حقائب الركاب التي كانت تعترض طريقه. مساعد الكابتن، يوسف إبراهيم سوداني في بداية العشرينات من عمره، تكاد تتخطاه العين شاب صغير السن ونحيف بصورة لافتة.
يوسف أيضاً قلق من توقيت إقلاع الطائرة، الثانية بعد الظهر ورحلة تستغرق حوالى ثلاث ساعات لمطار لا توجد به إضاءة ومساعدات ملاحية ضعيفة جداً، وزاد من قلق يوسف تعالي الكابتن الكندي في تعامله مع حقائب الركاب، قال له لماذا لا تطلب إلغاء الرحلة خاصة وأن الزمن أصبح ضيقاً، أجاب الكابتن الكندي بأن كل شيء على ما يرام. لم يقتنع مساعد الكابتن بذلك، لكنه يظل مساعد الكابتن وهو طيار حديث التخرج، فكيف يناقش )الكابتن الخواجة(
أخيراً جاء نداء موظفة استعلامات المطار...)على ركاب رحلة سودانير رقم )302( المتجهة إلى ملكال جوبا التوجه نحو البوابة رقم اثنين(… تحرك الجميع نحو البوابة المعنية، كل واحد منهم كان يفكر في ما بعد الوصول إلى المدينة التي يقصدها، همام سوري الجنسية، يبدو كالكلمة الشاذة وسط ركاب الطائرة، وأيضاً هناك رجل أعمال سوداني من أصول هندية. بقية الركاب سودانيون لهم ارتباطات عمل بمدينتي ملكال وجوبا. والبعض الآخر من مواطني الجنوب.، وفيهم أربع سيدات، ثلاث منه ربات منزل، والأخيرة صاحبة أشهر )إنداية في ملكال(
أقلعت طائرة الفوكرز )27( )فرندشيب( في إتجاه الشمال، فنحن في فصل الشتاء والرياح شمالية، عبرت النيل الأزرق، ثم أخذت دورة إلى اليمين في اتجاه الجنوب الجغرافي متجه إلى مدينة ملكال
وأخذت ترتفع ومعالم مدينة الخرطوم تختفي قليلاً قليلاً. نظر مساعد الكابتن يوسف، إلى النيل الأبيض المساعدات الملاحية الأرضية ضعيفة وتكاد تنعدم لذلك لابد من الإستعانة بقراءة الخريطة ومطابقتها مع معالم الأرض تحتهم.
لكنه شهر ديسمبر، لا سحب في سماوات الجنوب، لكن هناك الضباب العالي الذي يحجب الرؤية.
بعد أن تجاوزت الطائرة مدينة كوستي بقليل ودخلت في منطقة أعالي النيل، بدأت المعالم الأرضية تختفي قليلاً قليلاً. أصبح الاعتماد على خبرة الطيارين وأجهزة ملاحة أرضية غير دقيقة وغالباً لا تعمل.
مضت ساعتان وكل شيء هادي، نظر مساعد الكابتن يوسف لساعته، بحساب الزمن يفترض أنهم على مشارف ملكال، إستأذن الكابتن في أن يطلب إذن الهبوط من مركز المراقبة الجوية في الخرطوم، من الإرتفاع العالي حتى يهبطوا في ملكال، نظر الكابتن الى أسفل، لكن لا شيء الضباب يحجب الرؤية تماماً.. وافق الكابتن وفعلاً حصل على إذن الهبوط من مطار الخرطوم .
واصلت الطائرة هبوطها من الإرتفاع الذي كانت عليه حتى وصلت لارتفاع أصبحت معالم الأرض واضحة، كانت المفاجأة أنهم في منطقة غريبة لم يشاهدوها من قبل. يوسف بخبرته يدرك إنهم قبل ان يصلوا إلى مدينة ملكال ينحني مجرى النيل الأبيض ، يرسم شكل الحرف )يو( بالإنجليزية لكن لا وجود لهذه العلامة.
حاول الكابتن أن يطير في شكل دائرة كبيرة ليبحثوا عن علامة أرضية تمكنهم من الوصول لمطار ملكال. واقترح عليه مساعده يوسف التحول عن مطار ملكال إلى مطار جوبا مباشرة خاصة أن معظم ركاب الرحلة مسافرون إلى جوبا.
لكن الكابتن الكندي قرر أن يبحث عن مطار ملكال، عندها رجع مساعد الكابتن يوسف لدروس الطيران وكيفية مواجهة مثل هذه المواقف، طلب من مطار ملكال أنّ يعطيهم اتجاه الطائرة اليهم، وهي تقانة قديمة تعتمد على نفس نظرية إبرة البوصلة التي تشير لسهم الشمال دائماً، وتقوم على أن تقرأ المحطة الأرضية تجاه الموجات اللاسلكية الصادرة عن الطائرة ثم يرسلها الموظف الأرضي إلى الطائرة، تسمى بمصطلحات الطيران )كيو دي أم(.
فكرة جيدة، لكن إرادة الله جعلت حكومة ثورة مايو تقيل الموظفين أصحاب الخبرة وتعين مكانهم جدداً بدون خبرة، لمرتين ظل الموظف الأرضي يرسل اتجاه الطائرة بصورة معكوسة تماماً فبدلاً من أن يرسل له اتجاه للمحطة، كان يرسل لهم اتجاههم عكس المحطة، النتيجة أنهم ذهبوا في الاتجاه المعاكس وبدلاً عن الطيران في إتجاه مطار ملكال كانوا يبتعدون عنه. وأهدروا وقتاً ثميناً ومزيداً من الوقود في محاولات بلا جدوى.
عندها أدرك الكابتن أنهم ضلوا طريقهم إلى ملكال وربما من الأفضل الاتصال بمطار جوبا. اتصل مساعد الكابتن بمطار جوبا طالباً منهم إعطاءه )كيو دي ام( ليعرف مكانه من المطار، ضحك من كان على الطرف الآخر وقال له أن جهاز الكيو دي أم معطل منذ ثلاثة شهور.
دخلت الرحلة مرحلة الخطر، أصبح موقف الوقود قليل جداً، والشمس تميل للغروب، أصبح الخيار البحث عن منطقة خالية من الأشجار ليهبطوا فيها اضطرارياً. لكن على مد البصر الاشجار الاستوائية تمتد لتلاقي السماء في الأفق البعيد.
طائرة الفوكرز بها ماكينتين ليست نفاثة )تيربو بروب( تعني بالعربية إنها مروحية بنظام التيربو. ثم توقفت إحدى المكنات وأصبحت الطائرة تعتمد على مكنة واحدة، قام مساعد الطيار، يوسف بمحاولة الطيران الشراعي،
لفائدة القارئ يعتمد الطيران الشراعي على خفض ارتفاع الطائرة بزاوية حادة جداً ليكسب سرعة ثم يعدل وضعية الطائرة مرة اأخرى لتطير مسافة أفقية تفقد فيها سرعتها تمكن الطائرة من قطع مسافة أفقية، ليعود الطيار مرة أخرى لفقدان الارتفاع لكسب سرعة لكن بطبيعة الحال في كل مرة يفقد ارتفاعه وتقل السرعة التي يكسبها. حتى يصل لمرحلة لا يمكنه فقدان الارتفاع ويصبح الخيار الهبوط الاضطراري.
في الأفق ظهر جبل وسط الغابات الاستوائية، لكن الكابتن الكندي عمد لتوجيه الطائرة مباشرة نحو الجبل وأصحبت كأنها بازي ينقض على فريسته.
في كابينة الركاب شعر الجميع بأن هناك شيئاً غير طبيعي، لكن كان الوضع مختلفاً داخل كابينة القيادة، كان الصراع محتدماً بين الكابتن الذي يضغط الطائرة بقوة نحو الجبل ومساعده يوسف الذي يحاول منعه من ذلك، ويبدو أن الكابتن الكندي اقتنع بأن الطائرة لابد ستصطدم بالجبل، لذلك فجأة ترك مقود الطائرة ووضع يديه بعيداً، عندها سيطر مساعده يوسف على الطائرة التي فعلاً أخذت تصطدم بقمم الأشجار، ونجح يوسف أخيراً في رفع الطائرة وتفادي الاصطدام بالجبل، لكن الهبوط الضطراري أصبح لا مفر منه بعد أن فقدت الطائرة أية سرعة وأخذت في الانحدار نحو الأرض.
في عالم الطيران كل لحظة لها ثمنها، اتخذ مساعد الكابتن قراره سريعاً ورفع مقدمة الطائرة لأقصى درجة ممكنة، وأنزل منظومة العجلات )لاندنق جيير( ثم فصل الكهرباء عن الطائرة كلها لمنع أية ‘مكانية لحدوث حريق بالطائرة.
ثم حدث الاصطدام الكبير… أعقبها لحظات قصيرة في حسابها... طويلة في عمرها، فتح مساعد الكابتن يوسف عينيه ليجد نفسه في كرسيه والطائرة، أو حقيقة حطام الطائرة قد استقرت على جانبها اليسار )جهة مقعد الكابتن( فيما مقعد مساعده كان في الجهة العالية.
فتح يوسف عينيه ، ثم مد رجليه ، حمد له على سلامتهما، التفت ناحية مقعد الكابتن لم يجده في مكانه، فقط شاهد يده اليمني وهي تمسك بمقبض دخل الكابينة، حاول فك الحزام والتحرر منه، لكنه يده اليسرى خذلته ولم تتحرك، أدرك إنها مكسورة، فتح بعض زرائر قميصه ووضع يده المكسورة بداخله، وإستخدم الأخرى في التحرر من الحزام.
توقع الأسوأ للركاب، لكنه نظر لأسفل الطائرة ووجد معظم الركاب يتحركون على الأرض.
عندما تفقد كابتن الطائرة الكندي الجنسية، وجد اإنه أٌصيب إصابة بالغة وهناك جرح كبير في فخذه لدرجة أن جزءاً من ملابسه تمزقت، فيما لا توجد عينيه، وضع يوسف كفة يده أمام أنف الكابتن، لاحظ وجود شهيق وزفير ضعيف. كان كابتن الطائرة يحتضر.
هبط يوسف من الطائرة وهو أصغر الموجودين عمراً، لكنه بحكم الواقع المسؤول بعد إصابة الكابتن.
غابت الشمس وبدأ ظلام الجنوب يرخي سدوله، وتوفيت سيدة جنوبية وطفلها الرضيع بعد أصابتهم إحدى الاشجار وأحدثت بفخذها جرحاً طويلاً وغائراً. لا وقت هنا للمشاعر وضياع الزمن في التحسر على ما حدث.
بصورة قاطعة تحدث مساعد الكابتن يوسف لركاب الطائرة أخطرهم بأنه هو المسؤول عنهم حالياً، وأن الأفضل أن يبقوا مع بعض لمواجهة أي خطر قادم خاصة وإنها غابات الإستوائية والمفترسات تتحرك ليلاً.
نفذ الركاب تعليماته واتخذوا أماكنهم حول الطائرة. الحشائش الطويلة تملأ المكان، تجمعوا كلهم في نقطة واحدة وحالوا الخلود للنوم.
وضع مساعد الكابتن يوسف حذاءه تحت رأسه محاولاً استدعاء النوم بعد هذا اليوم الحافل. لكن كيف.
أخذ يوسف يسترجع سريعاً شريط حياته منذ طفولته وحتى اللحظة التي قد تكون نهاية سريعة لحياته وهو لا زال إبن إثنين وعشرين عاماً.
تذكر هروبه من الخلوة عندما ضربه الشيخ بالسوط بقوة على ظهره، وكيف أن زملاءه طاردوه حتى المنزل، طاعة للشيخ الذي أمرهم بذلك. وعندما دخل منزله أخذ )طوبة( وحذر زملاءه. . في اليوم الثاني أخذه والده لروضة أمريكية بالخرطوم بحري حيث منزلهم بمنطقة سعد قشرة.
ونواصل
في الحلقة القادمة
بين الخوف من القطط والظلام، ومواجهة الأسود في ظلمات الغابات الاستوائية.
البحث عن مياه الشرب والوقوع في كمين قوات أنانيا ون
مأساة أُسرة جنوبية.
تعذيب كمندان بوليس ملكا
الحلقة الأولى
رحلة سُودانير )302(
تأريخ بلادنا القريب حافل بأحداث بدأت معزولة لكنها احدثت تغييرات كبيرة على المستوى القومي.
الحادثة التي نحن بصدد التوثيق لها، بدأت مثل أية حادثة طيران عادية تحدث في مجاهل أفريقيا في وقت كانت صناعة النقل الجوي تواجه مصاعب كثيرة تتعلق بالملاحة الجوية وضعف المساعدات الأرضية.
بذلت جهداً كبيراً للوصول للشاهد الأول، مساعد الكابتن للرحلة المعنية، كابتن يوسف إبراهيم موسى، وأشكره على تعاونه الكبير معي وصبره على استقطاع دقائق من وقته الغالي ومشاغله الكبيرة.
طلب من القراء الأعزاء.. أرجو أن تقرأوا هذه الحلقات وتسقطوا كل تفاصيل هذه الرحلة على حال بلادنا الآن.. يقول كابتن يوسف أن 27 يوماً في أسر قوات الأنانيا عبدت الطريق لاتفاقية سلام أديس أبابا 1972.
توثيق: علي ميرغني
ديسمبر 1970 …..
وشمس الشتاء تلهب صالة المغادرة بمطار الخرطوم، الساعة تشير إلى الثانية بعد الظهر. أكثر من أربعين راكباً ينتظرون الصعود الى طائرة الخطوط الجوية السودانية المتجهة إلى ملكال جوبا.
لأسبابٍ غير ظاهرة يبدو التوتر على كابتن الطائرة، "كندي "الجنسية، الذي يدخل الصالة ويركل بعض حقائب الركاب التي كانت تعترض طريقه. مساعد الكابتن، يوسف إبراهيم سوداني في بداية العشرينات من عمره، تكاد تتخطاه العين شاب صغير السن ونحيف بصورة لافتة.
يوسف أيضاً قلق من توقيت إقلاع الطائرة، الثانية بعد الظهر ورحلة تستغرق حوالى ثلاث ساعات لمطار لا توجد به إضاءة ومساعدات ملاحية ضعيفة جداً، وزاد من قلق يوسف تعالي الكابتن الكندي في تعامله مع حقائب الركاب، قال له لماذا لا تطلب إلغاء الرحلة خاصة وأن الزمن أصبح ضيقاً، أجاب الكابتن الكندي بأن كل شيء على ما يرام. لم يقتنع مساعد الكابتن بذلك، لكنه يظل مساعد الكابتن وهو طيار حديث التخرج، فكيف يناقش )الكابتن الخواجة(
أخيراً جاء نداء موظفة استعلامات المطار...)على ركاب رحلة سودانير رقم )302( المتجهة إلى ملكال جوبا التوجه نحو البوابة رقم اثنين(… تحرك الجميع نحو البوابة المعنية، كل واحد منهم كان يفكر في ما بعد الوصول إلى المدينة التي يقصدها، همام سوري الجنسية، يبدو كالكلمة الشاذة وسط ركاب الطائرة، وأيضاً هناك رجل أعمال سوداني من أصول هندية. بقية الركاب سودانيون لهم ارتباطات عمل بمدينتي ملكال وجوبا. والبعض الآخر من مواطني الجنوب.، وفيهم أربع سيدات، ثلاث منه ربات منزل، والأخيرة صاحبة أشهر )إنداية في ملكال(
أقلعت طائرة الفوكرز )27( )فرندشيب( في إتجاه الشمال، فنحن في فصل الشتاء والرياح شمالية، عبرت النيل الأزرق، ثم أخذت دورة إلى اليمين في اتجاه الجنوب الجغرافي متجه إلى مدينة ملكال
وأخذت ترتفع ومعالم مدينة الخرطوم تختفي قليلاً قليلاً. نظر مساعد الكابتن يوسف، إلى النيل الأبيض المساعدات الملاحية الأرضية ضعيفة وتكاد تنعدم لذلك لابد من الإستعانة بقراءة الخريطة ومطابقتها مع معالم الأرض تحتهم.
لكنه شهر ديسمبر، لا سحب في سماوات الجنوب، لكن هناك الضباب العالي الذي يحجب الرؤية.
بعد أن تجاوزت الطائرة مدينة كوستي بقليل ودخلت في منطقة أعالي النيل، بدأت المعالم الأرضية تختفي قليلاً قليلاً. أصبح الاعتماد على خبرة الطيارين وأجهزة ملاحة أرضية غير دقيقة وغالباً لا تعمل.
مضت ساعتان وكل شيء هادي، نظر مساعد الكابتن يوسف لساعته، بحساب الزمن يفترض أنهم على مشارف ملكال، إستأذن الكابتن في أن يطلب إذن الهبوط من مركز المراقبة الجوية في الخرطوم، من الإرتفاع العالي حتى يهبطوا في ملكال، نظر الكابتن الى أسفل، لكن لا شيء الضباب يحجب الرؤية تماماً.. وافق الكابتن وفعلاً حصل على إذن الهبوط من مطار الخرطوم .
واصلت الطائرة هبوطها من الإرتفاع الذي كانت عليه حتى وصلت لارتفاع أصبحت معالم الأرض واضحة، كانت المفاجأة أنهم في منطقة غريبة لم يشاهدوها من قبل. يوسف بخبرته يدرك إنهم قبل ان يصلوا إلى مدينة ملكال ينحني مجرى النيل الأبيض ، يرسم شكل الحرف )يو( بالإنجليزية لكن لا وجود لهذه العلامة.
حاول الكابتن أن يطير في شكل دائرة كبيرة ليبحثوا عن علامة أرضية تمكنهم من الوصول لمطار ملكال. واقترح عليه مساعده يوسف التحول عن مطار ملكال إلى مطار جوبا مباشرة خاصة أن معظم ركاب الرحلة مسافرون إلى جوبا.
لكن الكابتن الكندي قرر أن يبحث عن مطار ملكال، عندها رجع مساعد الكابتن يوسف لدروس الطيران وكيفية مواجهة مثل هذه المواقف، طلب من مطار ملكال أنّ يعطيهم اتجاه الطائرة اليهم، وهي تقانة قديمة تعتمد على نفس نظرية إبرة البوصلة التي تشير لسهم الشمال دائماً، وتقوم على أن تقرأ المحطة الأرضية تجاه الموجات اللاسلكية الصادرة عن الطائرة ثم يرسلها الموظف الأرضي إلى الطائرة، تسمى بمصطلحات الطيران )كيو دي أم(.
فكرة جيدة، لكن إرادة الله جعلت حكومة ثورة مايو تقيل الموظفين أصحاب الخبرة وتعين مكانهم جدداً بدون خبرة، لمرتين ظل الموظف الأرضي يرسل اتجاه الطائرة بصورة معكوسة تماماً فبدلاً من أن يرسل له اتجاه للمحطة، كان يرسل لهم اتجاههم عكس المحطة، النتيجة أنهم ذهبوا في الاتجاه المعاكس وبدلاً عن الطيران في إتجاه مطار ملكال كانوا يبتعدون عنه. وأهدروا وقتاً ثميناً ومزيداً من الوقود في محاولات بلا جدوى.
عندها أدرك الكابتن أنهم ضلوا طريقهم إلى ملكال وربما من الأفضل الاتصال بمطار جوبا. اتصل مساعد الكابتن بمطار جوبا طالباً منهم إعطاءه )كيو دي ام( ليعرف مكانه من المطار، ضحك من كان على الطرف الآخر وقال له أن جهاز الكيو دي أم معطل منذ ثلاثة شهور.
دخلت الرحلة مرحلة الخطر، أصبح موقف الوقود قليل جداً، والشمس تميل للغروب، أصبح الخيار البحث عن منطقة خالية من الأشجار ليهبطوا فيها اضطرارياً. لكن على مد البصر الاشجار الاستوائية تمتد لتلاقي السماء في الأفق البعيد.
طائرة الفوكرز بها ماكينتين ليست نفاثة )تيربو بروب( تعني بالعربية إنها مروحية بنظام التيربو. ثم توقفت إحدى المكنات وأصبحت الطائرة تعتمد على مكنة واحدة، قام مساعد الطيار، يوسف بمحاولة الطيران الشراعي،
لفائدة القارئ يعتمد الطيران الشراعي على خفض ارتفاع الطائرة بزاوية حادة جداً ليكسب سرعة ثم يعدل وضعية الطائرة مرة اأخرى لتطير مسافة أفقية تفقد فيها سرعتها تمكن الطائرة من قطع مسافة أفقية، ليعود الطيار مرة أخرى لفقدان الارتفاع لكسب سرعة لكن بطبيعة الحال في كل مرة يفقد ارتفاعه وتقل السرعة التي يكسبها. حتى يصل لمرحلة لا يمكنه فقدان الارتفاع ويصبح الخيار الهبوط الاضطراري.
في الأفق ظهر جبل وسط الغابات الاستوائية، لكن الكابتن الكندي عمد لتوجيه الطائرة مباشرة نحو الجبل وأصحبت كأنها بازي ينقض على فريسته.
في كابينة الركاب شعر الجميع بأن هناك شيئاً غير طبيعي، لكن كان الوضع مختلفاً داخل كابينة القيادة، كان الصراع محتدماً بين الكابتن الذي يضغط الطائرة بقوة نحو الجبل ومساعده يوسف الذي يحاول منعه من ذلك، ويبدو أن الكابتن الكندي اقتنع بأن الطائرة لابد ستصطدم بالجبل، لذلك فجأة ترك مقود الطائرة ووضع يديه بعيداً، عندها سيطر مساعده يوسف على الطائرة التي فعلاً أخذت تصطدم بقمم الأشجار، ونجح يوسف أخيراً في رفع الطائرة وتفادي الاصطدام بالجبل، لكن الهبوط الضطراري أصبح لا مفر منه بعد أن فقدت الطائرة أية سرعة وأخذت في الانحدار نحو الأرض.
في عالم الطيران كل لحظة لها ثمنها، اتخذ مساعد الكابتن قراره سريعاً ورفع مقدمة الطائرة لأقصى درجة ممكنة، وأنزل منظومة العجلات )لاندنق جيير( ثم فصل الكهرباء عن الطائرة كلها لمنع أية ‘مكانية لحدوث حريق بالطائرة.
ثم حدث الاصطدام الكبير… أعقبها لحظات قصيرة في حسابها... طويلة في عمرها، فتح مساعد الكابتن يوسف عينيه ليجد نفسه في كرسيه والطائرة، أو حقيقة حطام الطائرة قد استقرت على جانبها اليسار )جهة مقعد الكابتن( فيما مقعد مساعده كان في الجهة العالية.
فتح يوسف عينيه ، ثم مد رجليه ، حمد له على سلامتهما، التفت ناحية مقعد الكابتن لم يجده في مكانه، فقط شاهد يده اليمني وهي تمسك بمقبض دخل الكابينة، حاول فك الحزام والتحرر منه، لكنه يده اليسرى خذلته ولم تتحرك، أدرك إنها مكسورة، فتح بعض زرائر قميصه ووضع يده المكسورة بداخله، وإستخدم الأخرى في التحرر من الحزام.
توقع الأسوأ للركاب، لكنه نظر لأسفل الطائرة ووجد معظم الركاب يتحركون على الأرض.
عندما تفقد كابتن الطائرة الكندي الجنسية، وجد اإنه أٌصيب إصابة بالغة وهناك جرح كبير في فخذه لدرجة أن جزءاً من ملابسه تمزقت، فيما لا توجد عينيه، وضع يوسف كفة يده أمام أنف الكابتن، لاحظ وجود شهيق وزفير ضعيف. كان كابتن الطائرة يحتضر.
هبط يوسف من الطائرة وهو أصغر الموجودين عمراً، لكنه بحكم الواقع المسؤول بعد إصابة الكابتن.
غابت الشمس وبدأ ظلام الجنوب يرخي سدوله، وتوفيت سيدة جنوبية وطفلها الرضيع بعد أصابتهم إحدى الاشجار وأحدثت بفخذها جرحاً طويلاً وغائراً. لا وقت هنا للمشاعر وضياع الزمن في التحسر على ما حدث.
بصورة قاطعة تحدث مساعد الكابتن يوسف لركاب الطائرة أخطرهم بأنه هو المسؤول عنهم حالياً، وأن الأفضل أن يبقوا مع بعض لمواجهة أي خطر قادم خاصة وإنها غابات الإستوائية والمفترسات تتحرك ليلاً.
نفذ الركاب تعليماته واتخذوا أماكنهم حول الطائرة. الحشائش الطويلة تملأ المكان، تجمعوا كلهم في نقطة واحدة وحالوا الخلود للنوم.
وضع مساعد الكابتن يوسف حذاءه تحت رأسه محاولاً استدعاء النوم بعد هذا اليوم الحافل. لكن كيف.
أخذ يوسف يسترجع سريعاً شريط حياته منذ طفولته وحتى اللحظة التي قد تكون نهاية سريعة لحياته وهو لا زال إبن إثنين وعشرين عاماً.
تذكر هروبه من الخلوة عندما ضربه الشيخ بالسوط بقوة على ظهره، وكيف أن زملاءه طاردوه حتى المنزل، طاعة للشيخ الذي أمرهم بذلك. وعندما دخل منزله أخذ )طوبة( وحذر زملاءه. . في اليوم الثاني أخذه والده لروضة أمريكية بالخرطوم بحري حيث منزلهم بمنطقة سعد قشرة.
ونواصل
في الحلقة القادمة
بين الخوف من القطط والظلام، ومواجهة الأسود في ظلمات الغابات الاستوائية.
البحث عن مياه الشرب والوقوع في كمين قوات أنانيا ون
مأساة أُسرة جنوبية.
تعذيب كمندان بوليس ملكا