الجمعة 9 سبتمبر 2022 - 8:46
هل يصبح “اتفاق جوبا” للسلام معضلة سياسية في السودان؟
قوى الحرية والتغيير تعتبره تجربة بشرية خاضعة للنقد والتعديل بينما ترفض الحركات المسلحة أي حديث حول مراجعته
في ظل تعثر حلول الأزمة السياسية السودانية المستفحلة مع كل تعقيداتها وطول أمدها، بدأت تطفو في الآونة الأخيرة تجاذبات جديدة كانت متوارية خلف كواليس التفاوض فجرتها المطالبات بمراجعة “اتفاق جوبا” لسلام السودان، وسرعان ما انفتح على أثرها باب لخلاف جديد بين شقي قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) والتوافق الوطني الذي يضم معظم الحركات المسلحة، من بعد إرهاصات عدة بتقارب الطرفين وتوافقهما.
مظاهر الخلاف
وتبدت أولى مظاهر الخلاف عند طرح مسودة الإعلان الدستوري المرتقب الذي يعكف عليه المجلس المركزي، ويشير في متنه إلى أن أحكام الإعلان ستسود على ما عداها من القوانين، بحيث تلغي أو تعدل كل ما يتعارض معه باعتباره القانون الأعلى والأسمى في البلاد، بما فيه اتفاق السلام.
وفي وقت تنطلق فيه رؤية قوى الحرية والتغيير من أن نصوص “اتفاق جوبا” للسلام تجربة بشرية تخضع للنقد والمراجعة، بينما ترفض قيادات الحركات المسلحة أي حديث عن المراجعة، بل وترى فيها جزءاً من حملة شرسة يتعرض إليها الاتفاق وتهدف إلى شيطنته، مما ينبئ عن ميلاد أزمة جديدة قد تضيف إلى تعقيدات المشهد السياسي تعقيداً آخر.
وفي السياق يرى القيادي بتحالف قوى الحرية والتغيير والمتحدث باسم حزب المؤتمر السوداني نور الدين بابكر أن “اتفاق جوبا” للسلام يمثل أحد إشراقات حكومة الفترة الانتقالية من حيث مخاطبته لجذور قضية الحرب والسلام في السودان، بيد أن المطالبة بمراجعته تأتي من باب تطويره كتجربة بشرية قابلة للنقد، إذ لا يخلو من بعض النواقص والأخطاء هنا وهناك.
ويقول بابكر لـ “اندبندنت عربية” إن هناك خلطاً سواء بوعي أو من دونه، ما بين اتفاق السلام كخطوة باتجاه طي قضية الحرب في السودان وما بين الموقف السياسي لحركات الكفاح المسلح التي انحازت إلى الانقلاب، مضيفاً أنه “موقف خاطئ لأن تحقيق السلام يحتاج إلى مناخ ديمقراطي وشروط ليس من بينها وجود حكم شمولي عسكري تغيب فيه الديمقراطية والحرية”.
وعلى الصعيد ذاته وصف المحلل الأمني أمين إسماعيل مجذوب “اتفاق جوبا” بأنه “مجهود بشري إنساني لا يخلو من تقصير، سواء أكان ذلك قصداً أو سهواً، لافتاً إلى أن الاتفاق جاء بكارثة ما يعرف بالمسارات التي أدخلت البلاد في إشكالات ضخمة، باعتبار مشكلات الولايات أمراً عادياً كان من الممكن مناقشتها وإيجاد الحلول لها في إطار ولائي أو اتحادي”.
ولفت مجذوب إلى أن بند الترتيبات الأمنية تضمن أيضاً أخطاء عدة، أبرزها عدم تحديد الأعداد الخاصة بكل حركة مسلحة وعدم تحديد مناطق محددة لتجميع وتدريب تلك القوات، مما أوجد إشكال صرف مبالغ مالية عبر الكشوفات وليس الأعداد الحقيقية، فضلاً عن أن التعويضات المالية المحددة بـ 750 مليون دولار سنوياً لمدة 10 سنوات، ليتضح أنه ليس في المقدرة توفيرها، مما سبب نوعاً من الصدمة للحركات جعلتها تسعى إلى وضع نفسها في موقع القرار المرتبط بذلك، وبالفعل تم وضع رئيس حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم في وزارة المالية ليعمل من بعد جاهداً ويضغط على كل الشعب السوداني لتوفير تلك المستحقات.
ثقوب وعوار
وأشار المحلل الأمني إلى أن “الممارسة كشفت بوضوح وجود عوار وثقوب قانونية في الاتفاق تحتاج إلى المراجعة، وهو ما تتفق معه العديد من القوى السياسية، موضحاً أن وصول قادة الحركات وفقاً لبرتوكول تقاسم السلطة إلى الخرطوم بوصفهم سياسيين، أعاق تكوين حكومة التكنوقراط المطلوبة لإدارة الفترة الانتقالية، وسعى الاتفاق إلى معالجة ذلك التناقض عبر المادة (20) فيه باستثناء أطراف السلام خلال الفترة الانتقالية، وكذلك الترشح للانتخابات، علماً بأن هذه الحركات لم توفق أوضاعها وتتحول إلى أجسام سياسية حتى الآن”.
وعليه، بحسب مجذوب، “فإن تشكيل حكومة تكنوقراط بات يتصادم مع وجود القادة التاريخيين لهذه الحركات، أما وقوفهم مع المكون العسكري فهو من منطلق أنه هو من تفاوض ووقع معهم الاتفاق إلى جانب الحكومة الانتقالية، لذلك فهم يقفون إلى جانبه في كل خططه وتكتيكاته حفاظاً على مصالحهم”.
ويرى المحلل الأمني أن دعوة “الحرية والتغيير” إلى مراجعة الاتفاق قد لا تخلو من مكايدة أو مناورة سياسية بسبب وقوف الحركات مع العسكريين، وكونها هي التي بشرت بإجراءات “25 أكتوبر” وتبنت العمل في مجلس السيادة ومجلس الوزراء بعد ذلك، أكثر من كونها دعوة حقيقية إلى إعادة فتح الاتفاق، إذ إنه لو حدث اتفاق سياسي بين الطرفين فقد تختفي هذه الدعوات.
النصوص والتطبيق
من جهته، يرى المحلل المتخصص في شؤون الحركات المسلحة محمد موسى بادي أن “اتفاق جوبا 2020” جاء أصلاً في سياق “ثورة ديسمبر” عقب عملية التغيير التي كانت تهدف بالأساس إلى إصلاح الحياة السياسية من خلال حرية الممارسة السياسية وتحقيق العدالة وتثبيت دعائم السلام، ولا يرى بادي عيباً في نصوص الاتفاق لكن تطبيقها الذي أفرز ملاحظات عدة يستوجب الوقوف عندها ومراجعتها، مشيراً إلى أن المشكلة الحقيقية التي تواجه الاتفاق هي النهج الذي اتبعته بعض أطراف العملية السلمية من الحركات نفسها، إذ كانت عملية التنفيذ محتكرة داخل غرف مغلقة ومحصورة على أفراد معدودين ظلوا يفعلون بالاتفاق ما يشاءون.
ويشير بادي إلى أن عملية تنفيذ الاتفاق كانت ولا تزال العقبة الكؤود أمام تحقيق السلام الحقيقي الذي يترجم عملية التغيير وينزلها واقعاً على حياة الناس، إذ لم تشهد معظم مناطق الصراعات أي تقدم يذكر في السلام والاستقرار على الأرض، فالنازحون لم يعودوا إلى ديارهم ولم تتبدل الأوضاع العامة على نحو قد يكون أفضل مما كانت عليه قبل توقيع السلام، وكل مؤشرات عدم الاستقرار ماثلة للعيان مما يتطلب بالضرورة إعادة النظر في عملية التنفيذ، حتى لا يتحول السلام إلى نقمة بدلاً من كونه نعمة.
رفض وانتقاد
وفي المقابل شدد المتحدث الرسمي باسم الجبهة الثورية أسامة سعيد على عدم السماح بأي إلغاء أو تعديل على “اتفاق جوبا”، لكنه أشار إلى أن الجبهة لا تمانع إدخال تعديلات على الوثيقة الدستورية 2019 بغرض مواكبة متغيرات ومستجدات استكمال التحول الديمقراطي.
كما حذر الأمين السياسي لحركة العدل والمساواة الرئيس المناوب للجنة العسكرية العليا للترتيبات الأمنية سليمان صندل “مسار دارفور” من أية محاولة من أي طرف من الأطراف لتعديل “اتفاق جوبا”، مطالباً قوى الحرية والتغيير بعدم اللعب بالنار.
وأضاف صندل أن “السلام قضية استراتيجية ومن دونه فمن الصعب التحدث عن أي تحول ديمقراطي، واتفاق جوبا مثل الجبل الراسي لا تهزه الأنواء، والشعب السوداني قادر على هزيمة أعداء السلام الظاهرين والمتسترين”.
وأوضح صندل خلال زيارته معهد الاستخبارات العسكرية متفقداً الدورة التدريبية لقوات الحراسات الخاصة وتأمين وحماية الشخصيات القيادية للحركات، أن الدورة ستسهم في تعزيز الثقة بين أعضاء حركات الكفاح المسلح وزملائهم الآخرين، كما تعضد الهدف الكلى الذي يسعى إليه الجميع من تقوية الوحدة الوطنية وقبول الآخر وإعلاء شأن الوطن.
وكانت القيادية بالحركة الشعبية ووزيرة الحكم الاتحادي المستقيلة بثينة دينار انتقدت في خطاب استقالتها البطء في تنفيذ اتفاق السلام، مشيرة إلى أن “إطار السلام والتحول الديمقراطي الذي تم فيه التفاوض وجاء باتفاق جوبا قد تم إسقاطه بانقلاب ’25 أكتوبر‘ مما جعله عرضة للنقض وعدم الالتزام ببنوده”.
ووصفت دينار ما يحدث الآن لتنفيذ الاتفاق بأنه “أشبه بتفاوض جديد، وأن ما يتم الآن بخصوص ما يسمى تنفيذ الترتيبات الأمنية عبارة عن تشويه لما تم الاتفاق عليه، لافتقاره إلى آليات التنفيذ الصحيحة المتفق عليها”.
“يونتامس” تستعجل
إلى ذلك دعت بعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان (يونتامس) إلى الإسراع في تنفيذ “اتفاق جوبا” للسلام بطريقة شفافة وجامعة وبدعم واسع، مشددة على أهمية معالجة الأسباب الجذرية للنزاعات واتخاذ خطوات ملموسة لتعزيز التسامح والتعايش السلمي.
وقالت البعثة في بيان لها إن أحداث العنف الأخيرة في إقليم النيل الأزرق تعتبر جزءاً من ارتفاع متصاعد للعنف المجتمعي في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان منذ ما وصفته بانقلاب الـ 25 من أكتوبر.
ونوه رئيس البعثة فولكر بيرتس إلى أن النمط المتزايد من غياب الأمن بمثابة إنذار يجب الانتباه إليه، فضلاً عن كونه تذكيراً آخر بالحاجة الملحة إلى تخطي المأزق السياسي الحالي وتشكيل حكومة فعالة بقيادة مدنية تقود الانتقال نحو الحكم الديمقراطي، وتلتفت إلى حاجات وأولويات الفئات المهمشة في جميع أنحاء السودان والتي تم إهمالها طويلاً.
وكانت وسائل التواصل الاجتماعي تداولت على نطاق واسع وثائق حول كم هائل من الإعفاءات من الرسوم الجمركية لمئات السيارات وعشرات الحاويات الشخصية وفق حصص محددة لكل الحركات المسلحة، قيل إنها في سياق ما جاء في اتفاق السلام في وعرف بـ “تسهيلات توفيق أوضاع منسوبي الحركات المسلحة”، مما أثار حفيظة الرأي العام السوداني في وقت تعيش البلاد أزمة اقتصادية خانقة وتضخماً جامحاً، فضلاً عن تداول خطاب في شأن إعفاء وزير المالية لعربة تخص ابن شقيقه قائد الحركة السابق الراحل خليل إبراهيم من رسوم الموانئ.
ومنذ الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول) تعمقت الفجوة بين قوى الحرية والتغيير والحركات المسلحة الموقعة على “اتفاق جوبا” للسلام، إذ كانت الأولى تأمل بوقوف الأخيرة إلى جانبها في مواجهة إجراءات قائد الجيش بتعطيل مؤسسات الفترة الانتقالية وفض الشراكة معها، باعتبار أن مثل ذلك الموقف سيكون عنصراً حاسماً في إفشال الانقلاب كما تصفه، لكن الحركات خيبت ظن الحرية والتغيير واختارت الوقوف إلى جانب المكون العسكري، واستمرت في منصبها بالسلطة والمجلس السيادي ومجلس الوزراء، وفق مرسوم الاستثناء الذي أصدره قائد الجيش آنذاك.
وفي الثالث من أكتوبر 2020 وقعت الحكومة السودانية وحركات الكفاح المسلح (الجبهة الثورية) اتفاق سلام وصف بالتاريخي بمدينة جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، وتضم الجبهة الحركات الخمس الرئيسة وهي “حركة العدل والمساواة” و”حركة تحرير السودان”، وكلاهما من إقليم دارفور، و”الحركة الشعبية لتحرير السودان” (شمال)، إلى جانب فصيلين آخرين، بينما تخلفت عن الاتفاق حركتا “عبدالواحد محمد نور” و”الحركة الشعبية عبدالعزيز الحلو”، وهدف الاتفاق إلى تحقيق الاستقرار والسلام في السودان بعد سنوات من الصراعات والحروب، وقدر ضحاياها بأكثر من 300 ألف نسمة وتشرد بسببها نحو 1.5 مليون بعد اتساع الصراع في الإقليم منذ العام 2003.
هل يصبح “اتفاق جوبا” للسلام معضلة سياسية في السودان؟
قوى الحرية والتغيير تعتبره تجربة بشرية خاضعة للنقد والتعديل بينما ترفض الحركات المسلحة أي حديث حول مراجعته
في ظل تعثر حلول الأزمة السياسية السودانية المستفحلة مع كل تعقيداتها وطول أمدها، بدأت تطفو في الآونة الأخيرة تجاذبات جديدة كانت متوارية خلف كواليس التفاوض فجرتها المطالبات بمراجعة “اتفاق جوبا” لسلام السودان، وسرعان ما انفتح على أثرها باب لخلاف جديد بين شقي قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) والتوافق الوطني الذي يضم معظم الحركات المسلحة، من بعد إرهاصات عدة بتقارب الطرفين وتوافقهما.
مظاهر الخلاف
وتبدت أولى مظاهر الخلاف عند طرح مسودة الإعلان الدستوري المرتقب الذي يعكف عليه المجلس المركزي، ويشير في متنه إلى أن أحكام الإعلان ستسود على ما عداها من القوانين، بحيث تلغي أو تعدل كل ما يتعارض معه باعتباره القانون الأعلى والأسمى في البلاد، بما فيه اتفاق السلام.
وفي وقت تنطلق فيه رؤية قوى الحرية والتغيير من أن نصوص “اتفاق جوبا” للسلام تجربة بشرية تخضع للنقد والمراجعة، بينما ترفض قيادات الحركات المسلحة أي حديث عن المراجعة، بل وترى فيها جزءاً من حملة شرسة يتعرض إليها الاتفاق وتهدف إلى شيطنته، مما ينبئ عن ميلاد أزمة جديدة قد تضيف إلى تعقيدات المشهد السياسي تعقيداً آخر.
وفي السياق يرى القيادي بتحالف قوى الحرية والتغيير والمتحدث باسم حزب المؤتمر السوداني نور الدين بابكر أن “اتفاق جوبا” للسلام يمثل أحد إشراقات حكومة الفترة الانتقالية من حيث مخاطبته لجذور قضية الحرب والسلام في السودان، بيد أن المطالبة بمراجعته تأتي من باب تطويره كتجربة بشرية قابلة للنقد، إذ لا يخلو من بعض النواقص والأخطاء هنا وهناك.
ويقول بابكر لـ “اندبندنت عربية” إن هناك خلطاً سواء بوعي أو من دونه، ما بين اتفاق السلام كخطوة باتجاه طي قضية الحرب في السودان وما بين الموقف السياسي لحركات الكفاح المسلح التي انحازت إلى الانقلاب، مضيفاً أنه “موقف خاطئ لأن تحقيق السلام يحتاج إلى مناخ ديمقراطي وشروط ليس من بينها وجود حكم شمولي عسكري تغيب فيه الديمقراطية والحرية”.
وعلى الصعيد ذاته وصف المحلل الأمني أمين إسماعيل مجذوب “اتفاق جوبا” بأنه “مجهود بشري إنساني لا يخلو من تقصير، سواء أكان ذلك قصداً أو سهواً، لافتاً إلى أن الاتفاق جاء بكارثة ما يعرف بالمسارات التي أدخلت البلاد في إشكالات ضخمة، باعتبار مشكلات الولايات أمراً عادياً كان من الممكن مناقشتها وإيجاد الحلول لها في إطار ولائي أو اتحادي”.
ولفت مجذوب إلى أن بند الترتيبات الأمنية تضمن أيضاً أخطاء عدة، أبرزها عدم تحديد الأعداد الخاصة بكل حركة مسلحة وعدم تحديد مناطق محددة لتجميع وتدريب تلك القوات، مما أوجد إشكال صرف مبالغ مالية عبر الكشوفات وليس الأعداد الحقيقية، فضلاً عن أن التعويضات المالية المحددة بـ 750 مليون دولار سنوياً لمدة 10 سنوات، ليتضح أنه ليس في المقدرة توفيرها، مما سبب نوعاً من الصدمة للحركات جعلتها تسعى إلى وضع نفسها في موقع القرار المرتبط بذلك، وبالفعل تم وضع رئيس حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم في وزارة المالية ليعمل من بعد جاهداً ويضغط على كل الشعب السوداني لتوفير تلك المستحقات.
ثقوب وعوار
وأشار المحلل الأمني إلى أن “الممارسة كشفت بوضوح وجود عوار وثقوب قانونية في الاتفاق تحتاج إلى المراجعة، وهو ما تتفق معه العديد من القوى السياسية، موضحاً أن وصول قادة الحركات وفقاً لبرتوكول تقاسم السلطة إلى الخرطوم بوصفهم سياسيين، أعاق تكوين حكومة التكنوقراط المطلوبة لإدارة الفترة الانتقالية، وسعى الاتفاق إلى معالجة ذلك التناقض عبر المادة (20) فيه باستثناء أطراف السلام خلال الفترة الانتقالية، وكذلك الترشح للانتخابات، علماً بأن هذه الحركات لم توفق أوضاعها وتتحول إلى أجسام سياسية حتى الآن”.
وعليه، بحسب مجذوب، “فإن تشكيل حكومة تكنوقراط بات يتصادم مع وجود القادة التاريخيين لهذه الحركات، أما وقوفهم مع المكون العسكري فهو من منطلق أنه هو من تفاوض ووقع معهم الاتفاق إلى جانب الحكومة الانتقالية، لذلك فهم يقفون إلى جانبه في كل خططه وتكتيكاته حفاظاً على مصالحهم”.
ويرى المحلل الأمني أن دعوة “الحرية والتغيير” إلى مراجعة الاتفاق قد لا تخلو من مكايدة أو مناورة سياسية بسبب وقوف الحركات مع العسكريين، وكونها هي التي بشرت بإجراءات “25 أكتوبر” وتبنت العمل في مجلس السيادة ومجلس الوزراء بعد ذلك، أكثر من كونها دعوة حقيقية إلى إعادة فتح الاتفاق، إذ إنه لو حدث اتفاق سياسي بين الطرفين فقد تختفي هذه الدعوات.
النصوص والتطبيق
من جهته، يرى المحلل المتخصص في شؤون الحركات المسلحة محمد موسى بادي أن “اتفاق جوبا 2020” جاء أصلاً في سياق “ثورة ديسمبر” عقب عملية التغيير التي كانت تهدف بالأساس إلى إصلاح الحياة السياسية من خلال حرية الممارسة السياسية وتحقيق العدالة وتثبيت دعائم السلام، ولا يرى بادي عيباً في نصوص الاتفاق لكن تطبيقها الذي أفرز ملاحظات عدة يستوجب الوقوف عندها ومراجعتها، مشيراً إلى أن المشكلة الحقيقية التي تواجه الاتفاق هي النهج الذي اتبعته بعض أطراف العملية السلمية من الحركات نفسها، إذ كانت عملية التنفيذ محتكرة داخل غرف مغلقة ومحصورة على أفراد معدودين ظلوا يفعلون بالاتفاق ما يشاءون.
ويشير بادي إلى أن عملية تنفيذ الاتفاق كانت ولا تزال العقبة الكؤود أمام تحقيق السلام الحقيقي الذي يترجم عملية التغيير وينزلها واقعاً على حياة الناس، إذ لم تشهد معظم مناطق الصراعات أي تقدم يذكر في السلام والاستقرار على الأرض، فالنازحون لم يعودوا إلى ديارهم ولم تتبدل الأوضاع العامة على نحو قد يكون أفضل مما كانت عليه قبل توقيع السلام، وكل مؤشرات عدم الاستقرار ماثلة للعيان مما يتطلب بالضرورة إعادة النظر في عملية التنفيذ، حتى لا يتحول السلام إلى نقمة بدلاً من كونه نعمة.
رفض وانتقاد
وفي المقابل شدد المتحدث الرسمي باسم الجبهة الثورية أسامة سعيد على عدم السماح بأي إلغاء أو تعديل على “اتفاق جوبا”، لكنه أشار إلى أن الجبهة لا تمانع إدخال تعديلات على الوثيقة الدستورية 2019 بغرض مواكبة متغيرات ومستجدات استكمال التحول الديمقراطي.
كما حذر الأمين السياسي لحركة العدل والمساواة الرئيس المناوب للجنة العسكرية العليا للترتيبات الأمنية سليمان صندل “مسار دارفور” من أية محاولة من أي طرف من الأطراف لتعديل “اتفاق جوبا”، مطالباً قوى الحرية والتغيير بعدم اللعب بالنار.
وأضاف صندل أن “السلام قضية استراتيجية ومن دونه فمن الصعب التحدث عن أي تحول ديمقراطي، واتفاق جوبا مثل الجبل الراسي لا تهزه الأنواء، والشعب السوداني قادر على هزيمة أعداء السلام الظاهرين والمتسترين”.
وأوضح صندل خلال زيارته معهد الاستخبارات العسكرية متفقداً الدورة التدريبية لقوات الحراسات الخاصة وتأمين وحماية الشخصيات القيادية للحركات، أن الدورة ستسهم في تعزيز الثقة بين أعضاء حركات الكفاح المسلح وزملائهم الآخرين، كما تعضد الهدف الكلى الذي يسعى إليه الجميع من تقوية الوحدة الوطنية وقبول الآخر وإعلاء شأن الوطن.
وكانت القيادية بالحركة الشعبية ووزيرة الحكم الاتحادي المستقيلة بثينة دينار انتقدت في خطاب استقالتها البطء في تنفيذ اتفاق السلام، مشيرة إلى أن “إطار السلام والتحول الديمقراطي الذي تم فيه التفاوض وجاء باتفاق جوبا قد تم إسقاطه بانقلاب ’25 أكتوبر‘ مما جعله عرضة للنقض وعدم الالتزام ببنوده”.
ووصفت دينار ما يحدث الآن لتنفيذ الاتفاق بأنه “أشبه بتفاوض جديد، وأن ما يتم الآن بخصوص ما يسمى تنفيذ الترتيبات الأمنية عبارة عن تشويه لما تم الاتفاق عليه، لافتقاره إلى آليات التنفيذ الصحيحة المتفق عليها”.
“يونتامس” تستعجل
إلى ذلك دعت بعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان (يونتامس) إلى الإسراع في تنفيذ “اتفاق جوبا” للسلام بطريقة شفافة وجامعة وبدعم واسع، مشددة على أهمية معالجة الأسباب الجذرية للنزاعات واتخاذ خطوات ملموسة لتعزيز التسامح والتعايش السلمي.
وقالت البعثة في بيان لها إن أحداث العنف الأخيرة في إقليم النيل الأزرق تعتبر جزءاً من ارتفاع متصاعد للعنف المجتمعي في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان منذ ما وصفته بانقلاب الـ 25 من أكتوبر.
ونوه رئيس البعثة فولكر بيرتس إلى أن النمط المتزايد من غياب الأمن بمثابة إنذار يجب الانتباه إليه، فضلاً عن كونه تذكيراً آخر بالحاجة الملحة إلى تخطي المأزق السياسي الحالي وتشكيل حكومة فعالة بقيادة مدنية تقود الانتقال نحو الحكم الديمقراطي، وتلتفت إلى حاجات وأولويات الفئات المهمشة في جميع أنحاء السودان والتي تم إهمالها طويلاً.
وكانت وسائل التواصل الاجتماعي تداولت على نطاق واسع وثائق حول كم هائل من الإعفاءات من الرسوم الجمركية لمئات السيارات وعشرات الحاويات الشخصية وفق حصص محددة لكل الحركات المسلحة، قيل إنها في سياق ما جاء في اتفاق السلام في وعرف بـ “تسهيلات توفيق أوضاع منسوبي الحركات المسلحة”، مما أثار حفيظة الرأي العام السوداني في وقت تعيش البلاد أزمة اقتصادية خانقة وتضخماً جامحاً، فضلاً عن تداول خطاب في شأن إعفاء وزير المالية لعربة تخص ابن شقيقه قائد الحركة السابق الراحل خليل إبراهيم من رسوم الموانئ.
ومنذ الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول) تعمقت الفجوة بين قوى الحرية والتغيير والحركات المسلحة الموقعة على “اتفاق جوبا” للسلام، إذ كانت الأولى تأمل بوقوف الأخيرة إلى جانبها في مواجهة إجراءات قائد الجيش بتعطيل مؤسسات الفترة الانتقالية وفض الشراكة معها، باعتبار أن مثل ذلك الموقف سيكون عنصراً حاسماً في إفشال الانقلاب كما تصفه، لكن الحركات خيبت ظن الحرية والتغيير واختارت الوقوف إلى جانب المكون العسكري، واستمرت في منصبها بالسلطة والمجلس السيادي ومجلس الوزراء، وفق مرسوم الاستثناء الذي أصدره قائد الجيش آنذاك.
وفي الثالث من أكتوبر 2020 وقعت الحكومة السودانية وحركات الكفاح المسلح (الجبهة الثورية) اتفاق سلام وصف بالتاريخي بمدينة جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، وتضم الجبهة الحركات الخمس الرئيسة وهي “حركة العدل والمساواة” و”حركة تحرير السودان”، وكلاهما من إقليم دارفور، و”الحركة الشعبية لتحرير السودان” (شمال)، إلى جانب فصيلين آخرين، بينما تخلفت عن الاتفاق حركتا “عبدالواحد محمد نور” و”الحركة الشعبية عبدالعزيز الحلو”، وهدف الاتفاق إلى تحقيق الاستقرار والسلام في السودان بعد سنوات من الصراعات والحروب، وقدر ضحاياها بأكثر من 300 ألف نسمة وتشرد بسببها نحو 1.5 مليون بعد اتساع الصراع في الإقليم منذ العام 2003.