الجمعة 10 مايو 2024 - 7:22
تفسير سورة المطففين ابن كثير
الله الرحمن الرحيم
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُوْلَيْكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ .6
قال النسائي وابن ماجه : أخبرنا محمد بن عقيل - زاد ابن ماجه وعبد الرحمن بن بشر - قالا : حدثنا علي بن الحسين بن واقد، حدثني أبي، عن يزيد - هو ابن أبي سعيد النحوي مولى قريش - عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما قدم نبي الله المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله : ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) ، فحسنوا الكيل بعد ذلك. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن النضر بن حماد، حدثنا محمد بن عبيد عن الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن عبد الله بن الحارث عن طلق قال : بينا أنا أسير مع ابن عمر فقلت : من أحسن الناس هيئة وأوفاه كيلاً؟ أهل مكة أو المدينة؟ قال : حق لهم، أما سمعت الله يقول: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) . وقال ابن جرير : حدثنا أبو السائب، حدثنا ابن فضيل عن ضرار، عن عبد الله المكتب، عن رجل، عن عبد الله قال : قال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، إن أهل المدينة ليوفون الكيل . قال : وما يمنعهم أن يوفوا الكيل وقد قال الله : وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) حتى بلغ: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) . فالمراد بالتطفيف ها هنا : البخس في المكيال والميزان إما بالازدياد إن اقتضى من الناس وإما بالنقصان إن قضاهم. ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخسار والهلاك وهو الويل، بقوله : ( الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ ) أي : من الناس يَسْتَوْفُونَ ) أي : يأخذون حقهم بالوافي والزائد، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) أي : ينقصون. والأحسن أن يجعل كالوا» و «وزنوا متعدياً ويكون هم في محل نصب، ومنهم من يجعلها ضميراً مؤكداً للمستتر في قوله : «كالوا» «وزنوا»، ويحذف المفعول لدلالة الكلام عليه، وكلاهما
متقارب .
وقد أمر الله - تعالى - بالوفاء في الكيل والميزان ، فقال : (وَأَوْفُوا الكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) [الإسراء: ٣٥]، وقال: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [الأنعام: ١٥٢] ، وقال : ( وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ولَا تُخسِرُوا الْمِيزَانَ ) [الرحمن: ۹] . وأهلك الله قوم شعيب ، ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في المكيال والميزان . ثم قال تعالى متوعداً لهم : أَلَا يَضُنُّ أُوْلَيْكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيم ؟ أي : أما يخافُ أولئك من البعث والقيام بين يدي من يعلم السرائر والضمائر، في يوم عظيم الهول، كثير الفزع جليل الخطب من خسر فيه أدخل ناراً حامية؟ وقوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي : يقومون حفاة عراة غُولاً، في موقف صعب حرج ضيق ضنك على المجرم، ويغشاهم من أمر الله ، ما تعجز القوى والحواس عنه . قال الإمام مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه». رواه البخاري من حديث مالك وعبد الله بن عون، كلاهما عن نافع به . ورواه مسلم من الطريقين أيضاً. وكذلك رواه صالح وثابت بن كيسان وأيوب بن يحيى وعبد الله وعبيد الله ابنا عمر، ومحمد بن إسحاق، عن نافع عن ابن عمر به ولفظ الإمام أحمد : حدثنا يزيد أخبرنا ابن إسحاق، عن نافع عن ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) : لعظمة الرحمن يوم القيامة، حتى إن العرق ليُلجم الرجال إلى أنصاف آذانهم».
،
حدیث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني سليم بن عامر، حدثني المقداد - يعني ابن الأسود الكندي - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد ، حتى تكون قيد ميل أو ميلين قال فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق كقدر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه الجاماً». رواه مسلم، عن الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة - والترمذي عن سويد، عن ابن المبارك - كلاهما عن ابن جابر به حديث آخر : قال الإمام
أحمد: حدثنا الحسن بن سوار ، حدثنا الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح : أن أبا عبد الرحمن حدثه، عن أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل ويزاد في حرها كذا وكذا تغلي منها الهوام كما تغلي القدور يُعرقون فيها على قدر خطاياهم، منهم من يبلغ إلى كعبيه ومنهم من يبلغ إلى ساقيه، ومنهم من يبلغ إلى وسطه، ومنهم من يلجمه العرق». انفرد به أحمد حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو عُشانة . سمع عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : تدنو الشمس من الأرض فيعرق الناس، فمن الناس من يبلغ عرقه عقبيه، ومنهم من يبلغ إلى نصف الساق، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ العجز ومنهم من يبلغ الخاصرة، ومنهم من يبلغ منكبيه، ومنهم من يبلغ وسط فيه - وأشار بيده فألجمها فاه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير هكذا ـ ومنهم من يغطيه عرقه» . وضرب بيده إشارة. انفرد به أحمد وفي حديث : أنهم يقومون سبعين سنة لا يتكلمون . وقيل : يقومون ثلاثمائة سنة . وقيل : يقومون أربعين ألف سنة. ويقضي بينهم في مقدار عشرة آلاف سنة، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: «في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو عون الزيادي أخبرنا عبد السلام بن عجلان، سمعت أبا يزيد المدني، عن أبي هريرة قال : قال النبي البشير الغفاري : كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه ثلاثمائة سنة لرب العالمين من أيام الدنيا لا يأتيهم فيه خبر من السماء ولا يؤمر فيه بأمر؟». قال بشير المستعان الله . قال: «فإذا أويت إلى فراشك فتعوذ بالله من كرب يوم القيامة، وسوء الحساب . ورواه ابن جرير من طريق عبد السلام، به . وفي سنن أبي داود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة. وعن ابن مسعود : يقومون أربعين سنة رافعي رؤوسهم إلى السماء، لا يكلمهم أحد، قد ألجم العرق برهم وفاجرهم. وعن ابن عمر : يقومون مائة سنة . رواهما ابن جرير . وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، عن أزهر بن سعيد الحواري، عن عاصم بن حميد، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح قيام الليل يكبر عشراً ، ويحمد عشراً، ويسبح عشراً، ويستغفر عشراً، ويقول: «اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني. ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة .
:
وكَلَّا إِنَّ كِتَبَ الْفُجَارِ لَفِي سِمِّينِ وَمَا أَدْرَنكَ مَا سِينُ ) كِتَبُ مَرْقُومٌ وَبَل يَوْمَيذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ
إلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَنِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ابْتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَدٍ مَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِى كُتُم بِهِ تُكَذِبُونَ )
يقول : حقاً إِنَّ كِتَبَ الْفُجَارِ لَفِي سِعِين ) أي : إن مصيرهم ومأواهم لفي سجين - فعيل من السجن، وهو الضيق ـ كما يقال : فسيق وشريب وخمير وسكير، ونحو ذلك . ولهذا عظم أمره فقال : (وَمَا أَدْرَنكَ مَا مِينٌ ؟ أي : هو أمر عظيم، وسجن مقيم وعذاب أليم. ثم قد قال قائلون: هي تحت الأرض السابعة. وقد تقدم في حديث البراء بن عازب، في حديثه الطويل : يقول الله في روح الكافر: اكتبوا كتابه في سجين. وسجين هي تحت الأرض السابعة وقيل : صخرة تحت الأرض السابعة خضراء . وقيل : بئر في جهنم . وقد روى ابن جرير في ذلك حديثاً غريباً منكراً لا يصح فقال : حدثنا إسحاق بن وهب الواسطي، حدثنا مسعود بن موسى بن مُشكان الواسطي، حدثنا نصر بن خزيمة الواسطي، عن شعيب بن صفوان، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة ، عن النبي ل : قال : «الفلق : جب في جهنم مغطى، وأما سجين فمفتوح». والصحيح أن سجيناً» مأخوذ من السجن، وهو الضيق، فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق وكل ما تعالى منها اتسع، فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها، حتى ينتهي السفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة. ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين، كما قال
إلى سجين،
تعالى : (ثُمَّ رَدَدْتَهُ أَسْفَلَ سَفِلِينَ ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ ﴾ [التين : ٥، ٦] . وقال ها هنا كَلَّا إِنَّ كِتَبَ الْفُجَّارِ لَفِي سِمِّينِ وما أدرنكَ مَا سِينٌ ، وهو يجمع الضيق والسفول، كما قال: ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ تُبُورًا ) الفرقان : ١٣]. وقوله : كتب مرقوم ) ليس تفسيراً لقوله: ﴿وَمَا أَدْرَنكَ مَا سِينُ ، وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير أي: مرقوم مكتوب مفروغ منه ، لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد ؛ قاله محمد بن كعب القرظي . ثم قال : ﴿وَيل يَوْمَيذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) أي : إذا صاروا يوم القيامة إلى ما أو عدهم الله من السجن والعذاب المهين. وقد تقدم الكلام على قوله : وَيْلٌ بما أغنى عن إعادته، وأن المراد من ذلك الهلاك والدمار، كما يقال : ويل لفلان وكما جاء في المسند والسنن من رواية بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويل للذي يُحدث فيكذب، ليضحك الناس ويل له ويل له. ثم قال تعالى مفسراً للمكذبين الفجار الكفرة : الَّذِينَ يُكَذِبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ) أي : لا يصدقون بوقوعه ،
،( ١٤
ولا يعتقدون كونه، ويستبعدون أمره. قال الله تعالى: ﴿وَمَا يُكَذِبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَنِيمٍ ) أي : معتد في أفعاله؛ من تعاطي الحرام والمجاوزة في تناول المباح والأثيم في أقواله : إن حدث كذب، وإن وعد أخلف، وإن خاصم فجر. وقوله: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ وَايَتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) أي : إذا سمع كلام الله من الرسول يكذب به، ويظن به ظن السوء، فيعتقد أنه مفتعل مجموع من كتب الأوائل، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) [النحل : ٢٤]، وقال: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفرقان: ٥]، قال الله تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) أي : ليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله ، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرّين الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا، ولهذا قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ . والرين يعتري قلوب الكافرين والغيم للأبرار، والغين للمقربين. وقد روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول الله: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) . وقال الترمذي : حسن صحيح. ولفظ النسائي : «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، فإن عاد فيها حتى يعلو قلبه، فهو الران الذي قال الله : كَلَّا بَلْ ران عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) . وقال :أحمد حدثنا صفوان بن عيسى، أخبرنا ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد زادت حتى يعلو قلبه، وذاك الران الذي ذكر الله في القرآن كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) وقال الحسن البصري : هو الذنب على الذنب، حتى يعمى القلب، فيموت. وكذا قال مجاهد بن جبر وقتادة، وابن زيد
وغيرهم. وقوله : كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَذٍ تَحْجُبُونَ ) أي : لهم يوم القيامة منزل ونزل سجين، ثم هم يوم القيامة مع ذلك محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم . قال الإمام أبو عبد الله الشافعي : في هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه يومئذ . ا وهذا الذي قاله الإمام الشافعي رحمه الله في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم هذه الآية، كما دل عليه منطوق قوله : وُجُوهٌ يَوْمَن نَاضِرَةُ إِلَى رَيْهَا نَاظِرَةٌ ) القيامة : ۲۲ ، ۲۳] . وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم في الدار الآخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة، وفي روضات الجنات الفاخرة. وقد قال ابن جرير محمد بن عمار الرازي : حدثنا أبو معمر المنقري، حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله : كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَذٍ مَحْجُوبُونَ ، قال : يكشف الحجاب، فينظر إليه المؤمنون والكافرون، ثم يحجب عنه الكافرون وينظر إليه المؤمنون . كُلّ يوم غدوة وعشية - أو كلاماً هذا معناه - . قوله : ثمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الجَحِيمِ ) أي : ثم هم مع . هذا الحرمان عن رؤية الرحمن من أهل النيران، ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذِبُونَ ) أي : يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ، والتصغير
والتحقير .
لوكلا إنَّ كِتَبَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلبِينَ وَمَا أَدْرَنَكَ مَا عِليُّونَ كِتَبُ تَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَابِكِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّحْتُورٍ خِتَمُهُ مِسْدٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) وَمِنَ اجُهُ مِن تَسْلِيمٍ
ينظرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ عيْنَا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ .
هي
قال
يقول تعالى : حقاً إِنَّ كِتَبَ الْأَبْرَارِ وهم بخلاف الفجار، لَفِي عِليِّينَ ) أي : مصيرهم إلى عليين، وهو بخلاف سجين . ، عن شمر بن عطية، عن هلال بن يساف قال : سأل ابن عباس كعباً وأنا حاضر عن سجين، قال : هي الأرض الأعمش، . السابعة. وفيها أرواح الكفار . وسأله عن عليين فقال : السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين. وهكذا قال غير واحد: إنها السماء السابعة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : كَلَّا إِنَّ كِتَبَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلْمِينَ ) يعني : الجنة . وفي رواية العوفي ، : عنه : أعمالهم في السماء عند الله . وكذا قال الضحاك. وقال قتادة : عليون ساق العرش اليمني. وقال غيره : عليون عند سدرة المنتهى والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع ؛ ولهذا قال معظماً أمره الملائكة، ومفخماً شأنه : (وَمَا أَدْرَنَكَ مَا عِليُّونَ ). ثم قال مؤكداً لما كتب لهم : كِتَبٌ تَرقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) قاله قتادة. وقال العوفي، عن ابن عباس : يشهده من كل سماء مقربوها . ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ) أي : يوم القيامة هم في نعيم مقيم، وجنات فيها فضل عميم عَلَى الْأَرَآبك وهي: السرر تحت الحجال يَنظُرُونَ ) قيل : معناه ينظرون في ملكهم وما أعطاهم الله من الخير والفضل الذي لا ينقضي ولا يبيد . وقيل : معناه عَلَى الْأَرَابِكِ يَنظُرُونَ ) إلى الله
وهذا مقابلة لما وصف به أولئك الفجار : كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَذٍ مَحْجُوبُونَ ) ، فذكر عن هؤلاء أنهم يباحون النظر إلى الله عل وهم على سررهم وفرشهم، كما تقدم في حديث ابن عمر : إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ، يرى أقصاه كما يرى أدناه، وإن أعلاه لمن ينظر إلى الله في اليوم «مرتين. وقوله: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) أي : تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم نضرة النعيم أي صفة الترافة والحشمة والسرور والدعة والرياسة، مما ه فيه من النعيم العظيم . وقوله : (يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّحْتُومٍ ) أي : يسقون من خمر من الجنة والرحيق من أسماء الخمر. قاله ابن مسعود، وابن عباس ،ومجاهد والحسن وقتادة، وابن زيد قال الإمام أحمد : حدثنا حسن حدثنا زهير عن سعد ا . أبي المجاهد الطائي، عن عطية بن سعد العوفي، عن أبي سعيد الخدري - أراه قد رفعه إلى النبي - قال : «أيما مؤمن سقى مؤمناً شربة على ظمأ ، سقاه الله ، يوم القيامة من الرحيق المختوم وأيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع، أطعمه الله من ثمار الجنة . وأيما مؤمن كسا مؤمناً ثوباً على عُري كساه الله من خُضر الجنة». وقال ابن مسعود في قوله : ختَمُهُ مِسكَ ) أي : خلطه مسك. وقال العوفي، عن ابن عباس : طيب الله لهم الخمر، فكان آخر شيء جعل فيها مسك ، ختم بمسك . وكذا قال قتادة والضحاك. وقال إبراهيم والحسن : ختَمُهُ مِسْدٌ ) أي : عاقبته مسك . وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا أبو حمزة، عن جابر ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن أبي الدرداء : ختَمُهُ مِسْدٌ قال : شراب أبيض مثل الفضة، يختمون به شرابهم . ولو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها، لم يبق ذو روح إلا وجد طيبها. وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ختمه مسك ) قال : طيبه مسك . وقوله: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَقِسُونَ ) أي : وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون، وليتباهى ويكاثر ويستبق إلى مثله المستبقون كقوله : لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَمِلُونَ ﴾ [الصافات: ٦١] . وقوله: ﴿وَمن اجله من تسنيم ) أي : ومزاج هذا الرحيق الموصوف من تسنيم أي من شراب يقال له تسنيم، وهو أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه. قاله أبو صالح والضحاك ، ولهذا قال : عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَزَبُونَ ) أي : يشربها المقربون صرفاً، وتُمزج لأصحاب اليمين مزجاً . قاله ابن مسعود وابن عباس ومسروق، وقتادة، وغيرهم.
وإِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَرُونَ وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَصَالُونَ ) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَفِظِينَ ) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَابِكِ يَنظُرُونَ ) هَلْ تُوبَ الْكُفَّارُ مَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ
:
يخبر تعالى عن المجرمين أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين، أي يستهزئون بهم ويحتقرونهم، وإذا مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم أي : محتقرين لهم ، ﴿وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ أنقَلَبُوا فَكِهِينَ ) أي : إذا انقلب، أي: رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم، انقلبوا إليها فاكهين أي مهما طلبوا وجدوا ، ومع هذا ما شكروا نعمة الله عليهم، بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحتقرونهم ويحسدونهم ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُونَ ) أي : لكونهم على غير دينهم، قال الله تعالى : ﴿وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَفِظِينَ ) أي : وما بُعث هؤلاء المجرمون حافظين على هؤلاء المؤمنين ما يصدر من أعمالهم وأقوالهم، ولا كلفوا بهم؟ فلم اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم، كما قال تعالى : قَالَ أَخْسَنُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا وَآمَنَّا فَأَغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِحْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَابِرُونَ ﴾ [المؤمنون: ۱۰۸ - ۱۱۱] . ولهذا قال ها هنا : فاليوم ) يعني : يوم القيامة ( الَّذِينَ آمَنُوا الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) أي : في مقابلة ما ضحك بهم أولئك عَلَى الْأَرَابِكِ يَنظُرُونَ ) أي : إلى الله ، في مقابلة من زعم فيهم أنهم ضالون، ليسوا بضالين بل هم من أولياء الله المقربين، ينظرون إلى ربهم في دار كرامته. وقوله : هَلْ تُوبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) أي : هل جوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والتنقص أم لا؟ يعني : قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله.
من
آخر تفسير سورة «المطففين»
ــــــــــــــــــ
الحديبة نيوز
.....
للاعلان بهذه المساحة واتساب
0919496619
تفسير سورة المطففين ابن كثير
الله الرحمن الرحيم
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُوْلَيْكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ .6
قال النسائي وابن ماجه : أخبرنا محمد بن عقيل - زاد ابن ماجه وعبد الرحمن بن بشر - قالا : حدثنا علي بن الحسين بن واقد، حدثني أبي، عن يزيد - هو ابن أبي سعيد النحوي مولى قريش - عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما قدم نبي الله المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله : ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) ، فحسنوا الكيل بعد ذلك. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن النضر بن حماد، حدثنا محمد بن عبيد عن الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن عبد الله بن الحارث عن طلق قال : بينا أنا أسير مع ابن عمر فقلت : من أحسن الناس هيئة وأوفاه كيلاً؟ أهل مكة أو المدينة؟ قال : حق لهم، أما سمعت الله يقول: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) . وقال ابن جرير : حدثنا أبو السائب، حدثنا ابن فضيل عن ضرار، عن عبد الله المكتب، عن رجل، عن عبد الله قال : قال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، إن أهل المدينة ليوفون الكيل . قال : وما يمنعهم أن يوفوا الكيل وقد قال الله : وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) حتى بلغ: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) . فالمراد بالتطفيف ها هنا : البخس في المكيال والميزان إما بالازدياد إن اقتضى من الناس وإما بالنقصان إن قضاهم. ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخسار والهلاك وهو الويل، بقوله : ( الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ ) أي : من الناس يَسْتَوْفُونَ ) أي : يأخذون حقهم بالوافي والزائد، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) أي : ينقصون. والأحسن أن يجعل كالوا» و «وزنوا متعدياً ويكون هم في محل نصب، ومنهم من يجعلها ضميراً مؤكداً للمستتر في قوله : «كالوا» «وزنوا»، ويحذف المفعول لدلالة الكلام عليه، وكلاهما
متقارب .
وقد أمر الله - تعالى - بالوفاء في الكيل والميزان ، فقال : (وَأَوْفُوا الكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) [الإسراء: ٣٥]، وقال: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [الأنعام: ١٥٢] ، وقال : ( وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ولَا تُخسِرُوا الْمِيزَانَ ) [الرحمن: ۹] . وأهلك الله قوم شعيب ، ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في المكيال والميزان . ثم قال تعالى متوعداً لهم : أَلَا يَضُنُّ أُوْلَيْكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيم ؟ أي : أما يخافُ أولئك من البعث والقيام بين يدي من يعلم السرائر والضمائر، في يوم عظيم الهول، كثير الفزع جليل الخطب من خسر فيه أدخل ناراً حامية؟ وقوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي : يقومون حفاة عراة غُولاً، في موقف صعب حرج ضيق ضنك على المجرم، ويغشاهم من أمر الله ، ما تعجز القوى والحواس عنه . قال الإمام مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه». رواه البخاري من حديث مالك وعبد الله بن عون، كلاهما عن نافع به . ورواه مسلم من الطريقين أيضاً. وكذلك رواه صالح وثابت بن كيسان وأيوب بن يحيى وعبد الله وعبيد الله ابنا عمر، ومحمد بن إسحاق، عن نافع عن ابن عمر به ولفظ الإمام أحمد : حدثنا يزيد أخبرنا ابن إسحاق، عن نافع عن ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) : لعظمة الرحمن يوم القيامة، حتى إن العرق ليُلجم الرجال إلى أنصاف آذانهم».
،
حدیث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني سليم بن عامر، حدثني المقداد - يعني ابن الأسود الكندي - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد ، حتى تكون قيد ميل أو ميلين قال فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق كقدر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه الجاماً». رواه مسلم، عن الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة - والترمذي عن سويد، عن ابن المبارك - كلاهما عن ابن جابر به حديث آخر : قال الإمام
أحمد: حدثنا الحسن بن سوار ، حدثنا الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح : أن أبا عبد الرحمن حدثه، عن أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل ويزاد في حرها كذا وكذا تغلي منها الهوام كما تغلي القدور يُعرقون فيها على قدر خطاياهم، منهم من يبلغ إلى كعبيه ومنهم من يبلغ إلى ساقيه، ومنهم من يبلغ إلى وسطه، ومنهم من يلجمه العرق». انفرد به أحمد حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو عُشانة . سمع عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : تدنو الشمس من الأرض فيعرق الناس، فمن الناس من يبلغ عرقه عقبيه، ومنهم من يبلغ إلى نصف الساق، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ العجز ومنهم من يبلغ الخاصرة، ومنهم من يبلغ منكبيه، ومنهم من يبلغ وسط فيه - وأشار بيده فألجمها فاه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير هكذا ـ ومنهم من يغطيه عرقه» . وضرب بيده إشارة. انفرد به أحمد وفي حديث : أنهم يقومون سبعين سنة لا يتكلمون . وقيل : يقومون ثلاثمائة سنة . وقيل : يقومون أربعين ألف سنة. ويقضي بينهم في مقدار عشرة آلاف سنة، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: «في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو عون الزيادي أخبرنا عبد السلام بن عجلان، سمعت أبا يزيد المدني، عن أبي هريرة قال : قال النبي البشير الغفاري : كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه ثلاثمائة سنة لرب العالمين من أيام الدنيا لا يأتيهم فيه خبر من السماء ولا يؤمر فيه بأمر؟». قال بشير المستعان الله . قال: «فإذا أويت إلى فراشك فتعوذ بالله من كرب يوم القيامة، وسوء الحساب . ورواه ابن جرير من طريق عبد السلام، به . وفي سنن أبي داود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة. وعن ابن مسعود : يقومون أربعين سنة رافعي رؤوسهم إلى السماء، لا يكلمهم أحد، قد ألجم العرق برهم وفاجرهم. وعن ابن عمر : يقومون مائة سنة . رواهما ابن جرير . وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، عن أزهر بن سعيد الحواري، عن عاصم بن حميد، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح قيام الليل يكبر عشراً ، ويحمد عشراً، ويسبح عشراً، ويستغفر عشراً، ويقول: «اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني. ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة .
:
وكَلَّا إِنَّ كِتَبَ الْفُجَارِ لَفِي سِمِّينِ وَمَا أَدْرَنكَ مَا سِينُ ) كِتَبُ مَرْقُومٌ وَبَل يَوْمَيذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ
إلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَنِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ابْتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَدٍ مَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِى كُتُم بِهِ تُكَذِبُونَ )
يقول : حقاً إِنَّ كِتَبَ الْفُجَارِ لَفِي سِعِين ) أي : إن مصيرهم ومأواهم لفي سجين - فعيل من السجن، وهو الضيق ـ كما يقال : فسيق وشريب وخمير وسكير، ونحو ذلك . ولهذا عظم أمره فقال : (وَمَا أَدْرَنكَ مَا مِينٌ ؟ أي : هو أمر عظيم، وسجن مقيم وعذاب أليم. ثم قد قال قائلون: هي تحت الأرض السابعة. وقد تقدم في حديث البراء بن عازب، في حديثه الطويل : يقول الله في روح الكافر: اكتبوا كتابه في سجين. وسجين هي تحت الأرض السابعة وقيل : صخرة تحت الأرض السابعة خضراء . وقيل : بئر في جهنم . وقد روى ابن جرير في ذلك حديثاً غريباً منكراً لا يصح فقال : حدثنا إسحاق بن وهب الواسطي، حدثنا مسعود بن موسى بن مُشكان الواسطي، حدثنا نصر بن خزيمة الواسطي، عن شعيب بن صفوان، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة ، عن النبي ل : قال : «الفلق : جب في جهنم مغطى، وأما سجين فمفتوح». والصحيح أن سجيناً» مأخوذ من السجن، وهو الضيق، فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق وكل ما تعالى منها اتسع، فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها، حتى ينتهي السفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة. ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين، كما قال
إلى سجين،
تعالى : (ثُمَّ رَدَدْتَهُ أَسْفَلَ سَفِلِينَ ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ ﴾ [التين : ٥، ٦] . وقال ها هنا كَلَّا إِنَّ كِتَبَ الْفُجَّارِ لَفِي سِمِّينِ وما أدرنكَ مَا سِينٌ ، وهو يجمع الضيق والسفول، كما قال: ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ تُبُورًا ) الفرقان : ١٣]. وقوله : كتب مرقوم ) ليس تفسيراً لقوله: ﴿وَمَا أَدْرَنكَ مَا سِينُ ، وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير أي: مرقوم مكتوب مفروغ منه ، لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد ؛ قاله محمد بن كعب القرظي . ثم قال : ﴿وَيل يَوْمَيذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) أي : إذا صاروا يوم القيامة إلى ما أو عدهم الله من السجن والعذاب المهين. وقد تقدم الكلام على قوله : وَيْلٌ بما أغنى عن إعادته، وأن المراد من ذلك الهلاك والدمار، كما يقال : ويل لفلان وكما جاء في المسند والسنن من رواية بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويل للذي يُحدث فيكذب، ليضحك الناس ويل له ويل له. ثم قال تعالى مفسراً للمكذبين الفجار الكفرة : الَّذِينَ يُكَذِبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ) أي : لا يصدقون بوقوعه ،
،( ١٤
ولا يعتقدون كونه، ويستبعدون أمره. قال الله تعالى: ﴿وَمَا يُكَذِبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَنِيمٍ ) أي : معتد في أفعاله؛ من تعاطي الحرام والمجاوزة في تناول المباح والأثيم في أقواله : إن حدث كذب، وإن وعد أخلف، وإن خاصم فجر. وقوله: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ وَايَتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) أي : إذا سمع كلام الله من الرسول يكذب به، ويظن به ظن السوء، فيعتقد أنه مفتعل مجموع من كتب الأوائل، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) [النحل : ٢٤]، وقال: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفرقان: ٥]، قال الله تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) أي : ليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله ، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرّين الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا، ولهذا قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ . والرين يعتري قلوب الكافرين والغيم للأبرار، والغين للمقربين. وقد روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول الله: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) . وقال الترمذي : حسن صحيح. ولفظ النسائي : «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، فإن عاد فيها حتى يعلو قلبه، فهو الران الذي قال الله : كَلَّا بَلْ ران عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) . وقال :أحمد حدثنا صفوان بن عيسى، أخبرنا ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد زادت حتى يعلو قلبه، وذاك الران الذي ذكر الله في القرآن كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) وقال الحسن البصري : هو الذنب على الذنب، حتى يعمى القلب، فيموت. وكذا قال مجاهد بن جبر وقتادة، وابن زيد
وغيرهم. وقوله : كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَذٍ تَحْجُبُونَ ) أي : لهم يوم القيامة منزل ونزل سجين، ثم هم يوم القيامة مع ذلك محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم . قال الإمام أبو عبد الله الشافعي : في هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه يومئذ . ا وهذا الذي قاله الإمام الشافعي رحمه الله في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم هذه الآية، كما دل عليه منطوق قوله : وُجُوهٌ يَوْمَن نَاضِرَةُ إِلَى رَيْهَا نَاظِرَةٌ ) القيامة : ۲۲ ، ۲۳] . وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم في الدار الآخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة، وفي روضات الجنات الفاخرة. وقد قال ابن جرير محمد بن عمار الرازي : حدثنا أبو معمر المنقري، حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله : كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَذٍ مَحْجُوبُونَ ، قال : يكشف الحجاب، فينظر إليه المؤمنون والكافرون، ثم يحجب عنه الكافرون وينظر إليه المؤمنون . كُلّ يوم غدوة وعشية - أو كلاماً هذا معناه - . قوله : ثمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الجَحِيمِ ) أي : ثم هم مع . هذا الحرمان عن رؤية الرحمن من أهل النيران، ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذِبُونَ ) أي : يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ، والتصغير
والتحقير .
لوكلا إنَّ كِتَبَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلبِينَ وَمَا أَدْرَنَكَ مَا عِليُّونَ كِتَبُ تَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَابِكِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّحْتُورٍ خِتَمُهُ مِسْدٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) وَمِنَ اجُهُ مِن تَسْلِيمٍ
ينظرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ عيْنَا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ .
هي
قال
يقول تعالى : حقاً إِنَّ كِتَبَ الْأَبْرَارِ وهم بخلاف الفجار، لَفِي عِليِّينَ ) أي : مصيرهم إلى عليين، وهو بخلاف سجين . ، عن شمر بن عطية، عن هلال بن يساف قال : سأل ابن عباس كعباً وأنا حاضر عن سجين، قال : هي الأرض الأعمش، . السابعة. وفيها أرواح الكفار . وسأله عن عليين فقال : السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين. وهكذا قال غير واحد: إنها السماء السابعة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : كَلَّا إِنَّ كِتَبَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلْمِينَ ) يعني : الجنة . وفي رواية العوفي ، : عنه : أعمالهم في السماء عند الله . وكذا قال الضحاك. وقال قتادة : عليون ساق العرش اليمني. وقال غيره : عليون عند سدرة المنتهى والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع ؛ ولهذا قال معظماً أمره الملائكة، ومفخماً شأنه : (وَمَا أَدْرَنَكَ مَا عِليُّونَ ). ثم قال مؤكداً لما كتب لهم : كِتَبٌ تَرقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) قاله قتادة. وقال العوفي، عن ابن عباس : يشهده من كل سماء مقربوها . ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ) أي : يوم القيامة هم في نعيم مقيم، وجنات فيها فضل عميم عَلَى الْأَرَآبك وهي: السرر تحت الحجال يَنظُرُونَ ) قيل : معناه ينظرون في ملكهم وما أعطاهم الله من الخير والفضل الذي لا ينقضي ولا يبيد . وقيل : معناه عَلَى الْأَرَابِكِ يَنظُرُونَ ) إلى الله
وهذا مقابلة لما وصف به أولئك الفجار : كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَذٍ مَحْجُوبُونَ ) ، فذكر عن هؤلاء أنهم يباحون النظر إلى الله عل وهم على سررهم وفرشهم، كما تقدم في حديث ابن عمر : إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ، يرى أقصاه كما يرى أدناه، وإن أعلاه لمن ينظر إلى الله في اليوم «مرتين. وقوله: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) أي : تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم نضرة النعيم أي صفة الترافة والحشمة والسرور والدعة والرياسة، مما ه فيه من النعيم العظيم . وقوله : (يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّحْتُومٍ ) أي : يسقون من خمر من الجنة والرحيق من أسماء الخمر. قاله ابن مسعود، وابن عباس ،ومجاهد والحسن وقتادة، وابن زيد قال الإمام أحمد : حدثنا حسن حدثنا زهير عن سعد ا . أبي المجاهد الطائي، عن عطية بن سعد العوفي، عن أبي سعيد الخدري - أراه قد رفعه إلى النبي - قال : «أيما مؤمن سقى مؤمناً شربة على ظمأ ، سقاه الله ، يوم القيامة من الرحيق المختوم وأيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع، أطعمه الله من ثمار الجنة . وأيما مؤمن كسا مؤمناً ثوباً على عُري كساه الله من خُضر الجنة». وقال ابن مسعود في قوله : ختَمُهُ مِسكَ ) أي : خلطه مسك. وقال العوفي، عن ابن عباس : طيب الله لهم الخمر، فكان آخر شيء جعل فيها مسك ، ختم بمسك . وكذا قال قتادة والضحاك. وقال إبراهيم والحسن : ختَمُهُ مِسْدٌ ) أي : عاقبته مسك . وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا أبو حمزة، عن جابر ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن أبي الدرداء : ختَمُهُ مِسْدٌ قال : شراب أبيض مثل الفضة، يختمون به شرابهم . ولو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها، لم يبق ذو روح إلا وجد طيبها. وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ختمه مسك ) قال : طيبه مسك . وقوله: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَقِسُونَ ) أي : وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون، وليتباهى ويكاثر ويستبق إلى مثله المستبقون كقوله : لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَمِلُونَ ﴾ [الصافات: ٦١] . وقوله: ﴿وَمن اجله من تسنيم ) أي : ومزاج هذا الرحيق الموصوف من تسنيم أي من شراب يقال له تسنيم، وهو أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه. قاله أبو صالح والضحاك ، ولهذا قال : عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَزَبُونَ ) أي : يشربها المقربون صرفاً، وتُمزج لأصحاب اليمين مزجاً . قاله ابن مسعود وابن عباس ومسروق، وقتادة، وغيرهم.
وإِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَرُونَ وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَصَالُونَ ) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَفِظِينَ ) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَابِكِ يَنظُرُونَ ) هَلْ تُوبَ الْكُفَّارُ مَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ
:
يخبر تعالى عن المجرمين أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين، أي يستهزئون بهم ويحتقرونهم، وإذا مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم أي : محتقرين لهم ، ﴿وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ أنقَلَبُوا فَكِهِينَ ) أي : إذا انقلب، أي: رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم، انقلبوا إليها فاكهين أي مهما طلبوا وجدوا ، ومع هذا ما شكروا نعمة الله عليهم، بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحتقرونهم ويحسدونهم ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُونَ ) أي : لكونهم على غير دينهم، قال الله تعالى : ﴿وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَفِظِينَ ) أي : وما بُعث هؤلاء المجرمون حافظين على هؤلاء المؤمنين ما يصدر من أعمالهم وأقوالهم، ولا كلفوا بهم؟ فلم اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم، كما قال تعالى : قَالَ أَخْسَنُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا وَآمَنَّا فَأَغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِحْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَابِرُونَ ﴾ [المؤمنون: ۱۰۸ - ۱۱۱] . ولهذا قال ها هنا : فاليوم ) يعني : يوم القيامة ( الَّذِينَ آمَنُوا الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) أي : في مقابلة ما ضحك بهم أولئك عَلَى الْأَرَابِكِ يَنظُرُونَ ) أي : إلى الله ، في مقابلة من زعم فيهم أنهم ضالون، ليسوا بضالين بل هم من أولياء الله المقربين، ينظرون إلى ربهم في دار كرامته. وقوله : هَلْ تُوبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) أي : هل جوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والتنقص أم لا؟ يعني : قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله.
من
آخر تفسير سورة «المطففين»
ــــــــــــــــــ
الحديبة نيوز
.....
للاعلان بهذه المساحة واتساب
0919496619