الأحد 3 أكتوبر 2021 - 7:35
منى أبوزيد تكتب : في تأبين شيخ النُّقاد ..!


“القلبُ غِمدُ الذكرياتِ.. من الذي أفضَى لسيفٍ في الضُلوعِ وسَلَّه”.. الشاعر أحمد بخيت ..!
بعيداً عن ضجيج الأحداث السياسية نشرت بعض صحف الخرطوم قبل أيام خبر إعلان – الراحلَيْن – الشاعر الكبير “محمد طه القدال” والكاتب والروائي والناقد الكبير “عيسى الحلو” شخصيتَيْ معرض الخرطوم الدولي للكتاب للعام 2021م. ولأن الشعر ديوان العرب, فقد كان حضور القدال صاخباً – وهو صخبٌ مُستحقٌ – ورحيله كذلك. على العكس من الإيقاع الهاديء الذي تميّزت به إبداعات “عيسى الحلو” ومُساهماته الثرَّة، وعلى العكس أيضاً من ذلك الحزن الهاجع الذي اتسم به رحيله. لدرجة أن موسوعة “ويكيبيديا” لم تضف خبر وفاته – الذي تزامن مع وفاة القدال – إلى صفحة المعلومات الخاصة به على موقعها، حتى تاريخ كتابة هذا المقال ..!
عرفتُ “عيسى الحلو” بعد أن انزلقتُ بهدوء من بين أبواب القصص القصيرة والقراءات النقدية الخجولة إلى ساحة الكتابة الصحفية، وكانت مَحطَّتي الأولى هي صحفية الرأي العام التي كان يرأس تحرير ملفها الثقافي. وهناك في صالة التحرير كانت لنا جلسات حوَّلَها بفضل تواضعه الجم إلى مفاكرات ومثاقفات في مختلف ضروب الكتابة وأشكال النقد. وكنتُ كلما أصغيتُ إليه ازداد يقيني بأن ذلك الهدوء الذي يُكلِّل حضوره في المشهد الثقافي مقصود، باعتباره جزءاً لا يتجزأ من رؤيته النقدية المتماسكة للمشهد الثقافي العام “من جهة” ولذاته ولفعل الحياة نفسه – على رحابته – من جهةٍ أخرى ..!
كانت لي مع الراحل “عيسى الحلو” ثلاثة مواقف – أو بالأحرى كانت له معي ثلاث وقفات نبيلة – أغرقني خلالها بوافر لطفه فصرتُ لا أنساها، ولن أنساها ما حييت. الموقف الأول كان عندما طلب منه الأستاذ “وجدي الكردي” – رئيس تحرير صحيفة حكايات – أن يكتب رؤيةً نقدية لروايتي “حكايتي مع رجاء” التي كانت تُنشر على حلقات بصحيفة حكايات “والتي كان مضمون عمود الأمس جزءاً منها”. فاستجاب بلطفه وهدوئه المعهود، ورغم تَعثُّر نشر الرواية ما زلت أحتفظ بما كتب، باعتباره كنزاً ثميناً وعزيزاً على قلمي وقلبي ..!
والموقف الثاني كان مقالاً نقدياً كتبه “شيخ النقاد” عن استخدام مفاتيح – أو عتبات – النصوص في تكنكيك كتابة عمود “هناك فرق”، وتناول فيه بالجرح والتحليل حرصي على افتتاح المقال باقتباس ذي صلة. والحقيقة أن ما كتبه كان يمثل – إلى جانب قيمته الفنية وأهميته النقدية – درساً ثميناً لحملة القلم “نقاداً كانوا أم كتاب رأي” في أدب الاختلاف، ولطف وبراعة التعبير عن الرأي الناقد البنَّاء الذي يُضيف إلى النص وكاتبه، فيساعد – أيما مساعدة – في تطوير الحراك الثقافي دونما إفراط أو تفريط ..!
والحقيقة أن حماستي للرد على مقاله ذاك قد انطلقت من أوسع أبواب الاحتفاء بتلك الالتفاتة الكريمة، والامتنان لتلك الملاحظات الثمينة التي أنعشت قلمي وجدّدت ولعي بشأن جدلية العلاقة بين العتبات والنصوص “مطلقاً”. وقد شكرت الله كثيراً – وقتها – لأنه هيأ لي مثل تلك الالتفاتة النقدية، الكثيرة جداً على “مفعوصة” مثلي ..!
أما الموقف الثالث والبديع فكان عندما أهداني الأستاذ “عيسى الحلو” كتاب “غابة صغيرة، أدب سوداني” وهو من منشورات جمعية البيت للثقافة والفنون الجزائرية وإعداد الشاعر السوداني “نصار الحاج” الذي جمع فيه بعض نصوص القصة القصيرة التي برزت في العقود الأخيرة في السودان ..!
ولم أكن أعلم مطلقاً بأمر ذلك الكتاب الذي فاجأني بأنه يتضمن ثلاثاً من القصص القصيرة التي كتبتها قبل سنوات – “أنا أكره المقاعد الدافئة”, “عن بنسي وغيرتها منِّي”، و”سر الانحناءة” – بعد أن قمتُ بنشرها في بعض المواقع الأدبية للمثقفين العرب على شبكة الإنترنت، ثم نسيتُ أمرها. ولا زلت أذكر كيف كان “شيخ النقاد” يتأمّل مظاهر فرحتي الطفولية وأنا أحمل ذلك الكتاب بين يدي، وهو يبتسم بحكمة الذين لزموا الهدوء أكثر من المطلوب وفهموا الحياة أكثر من اللازم ..!