الجمعة 8 أكتوبر 2021 - 20:20
سورة البقرة
‏آية 108
تفسير ابن كثير
أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ)108(
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة ، عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها ، كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم (] المائدة : 101 [أي : وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم ، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه ; فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة . ولهذا جاء في الصحيح :" إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم ، فحرم من أجل مسألته ". ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم ، وإن سكت سكت على مثل ذلك ; فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها . ثم أنزل الله حكم الملاعنة . ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال وفي صحيح مسلم :" ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ". وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا . ثم قال ، عليه السلام :" لا ، ولو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لما استطعتم ". ثم قال :" ذروني ما تركتكم "الحديث . وهكذا قال أنس بن مالك : نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا أبو كريب ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، قال : إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فأتهيب منه ، وإن كنا لنتمنى الأعراب .
وقال البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ما سألوه إلا عن ثنتي
عشرة مسألة ، كلها في القرآن يسألونك عن الخمر والميسر (] البقرة : 219 [، و) يسألونك عن الشهر الحرام (] البقرة : 217 [، و) ويسألونك عن اليتامى (] البقرة : 220 [يعني : هذا وأشباهه .
وقوله تعالى أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل (أي : بل تريدون . أو هي على بابها في الاستفهام ، وهو إنكاري ، وهو يعم المؤمنين والكافرين ، فإنه ، عليه السلام ، رسول الله إلى الجميع ، كما قال تعالى يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم (] النساء : 153 [.
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد] بن جبير [عن ابن عباس ، قال : قال رافع بن حريملة أو وهب بن زيد : يا محمد ، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرأه ، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك . فأنزل الله من قولهم أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل (
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل (قال : قال رجل : يا رسول الله ، لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" اللهم لا نبغيها - ثلاثا - ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل ، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها ، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة . فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل ". قال ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (] النساء : 110 [، وقال :" الصلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ". وقال :" من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ، وإن عملها كتبت سيئة واحدة ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة ، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها ، ولا يهلك على الله إلا هالك ". فأنزل الله أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل (
وقال مجاهد أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل (أن يريهم الله جهرة ، قال : سألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا . قال :" نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم "، فأبوا ورجعوا .
وعن السدي وقتادة نحو هذا ، والله أعلم .
والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء ، على وجه التعنت والاقتراح ، كما سألت بنو إسرائيل موسى ، عليه السلام ، تعنتا وتكذيبا وعنادا ، قال الله تعالى ومن يتبدل الكفر بالإيمان (أي : من يشتر الكفر بالإيمان) فقد ضل سواء السبيل (أي : فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم ، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها ، على وجه التعنت والكفر ، كما قال تعالى ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار (] إبراهيم : 28 , 29 [.
وقال أبو العالية : يتبدل الشدة بالرخاء .