الخميس 21 أكتوبر 2021 - 13:20
القرشي شهيدنا الأول نجوم لا تأفل


بقلم : سعيد عباس
نجمنا لذلك اليوم كان ُملهماً لأدب جديد ومدرسة شعرية جديدة اُطلق عليها اصطلاحا )بالاكتوبريات( فأستحق ان يكون رمزا يشار اليه ببنان التضحية والحرية وشرف الشهادة بعد ان استقبل جسده النحيل أول طلقة من عسكر حكومة الفريق عبود في منتصف ستينيات القرن المنصرم حتى حرر ذلك الحدث شهادات ميلاد أدبية وإبداعية لشعراء شباب جدد على رأسهم الأستاذ هاشم صديق صاحب )الملحمة(، وفضل الله محمد صاحب )شهر عشرة حبابو عشرة(، و)المجد للآلاف( وعدد من الملاحم الأكتوبرية إنه شهيد الثورة والحرية ورمز أكتوبر المجيد الطالب أحمد القرشي طه محمد صالح .
)1(
كانت صرخة ميلاده في عام 1945م بقرية القراصة المتّكِئة على الضفة الشرقية للنيل الأبيض والتي تبعد حوالي 52 كلم جنوب العاصمة الخرطوم حيث بدأ تعليمه كسائر أبناء جيله في ذلك الزمان بدخول الخلوة كمرحلة تعليمية أولى بعد أن حفظ القرآن الكريم في خلوة جده الشيخ الصديق ثم واصل بداية تعليمه الأولي بدخوله إلى مدرسة )نعيمة( التي انتقل بعدها إلى مدرسة الدلنج الاولية بمدينة الدلنج بولاية جنوب كردفان ثم الوسطى بمدرسة ابوجبيهة والثانوي بمدينة الفاشر. والملاحظ تنقل القرشي إلى مدارس وولايات مختلفة في فترات متقاربة وذلك بسبب طبيعة عمل والده الذي كان يعتبر من كبار )الجلابة( ويعمل في التجارة المتنقلة والتي تستقر أحيانا في مناطق معينة لفترات أطول، وأخيرا واصل القرشي تفوقه ونجاحه بدخوله جامعة الخرطوم في كلية العلوم حيث تخصص في علم الأحياء الدقيقة.
)2(
شبّ القرشي مولعاً بالثقافة والقراءة والإطلاع والسياسة ولكن حسب تقصي زاوية نجوم لا تأفل مع عدد من أصدقائه وأقاربه وأبناء دفعته اتضح أن هنالك ضبابية في النشاط السياسي له حيث جاءت الاجابات مختلفة ومتباينة بعض الشيء فهنالك من يقول بانتمائه للاتجاه الإسلامي وهنالك من نسبه إلى الجبهة الديمقراطية اليسارية بينما قال آخرون إن القرشي كان مسؤول الاتصال بين رابطة الطلاب ومركز الحزب الشيوعي السوداني إبتداءً من دخوله جامعة الخرطوم حتى حادثة استشهاده في 21 أكتوبر عام 1964م وفي نفس الوقت زعم بعض أهلنا من مناطق النيل الأبيض بأن القرشي حزب أمة وأنصاري واستشهدوا لذلك بصلاة السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة على جثمانه وهو يؤم الناس بميدان عبد المنعم بينما قال أحد أقاربه بصورة جازمة إن القرشي لا ينتمي لأي نشاط أو اتجاه سياسي فقد كان طالبا عاديا يتفاعل كغيره مع قضايا وإشكاليات زملائه بالجامعة بصورة واضحة وشجاعة . ولكن بعض الاتجاهات السياسية تريد أن تتبنى نضاله واستشهاده وتنسبه إليها وهذا ماحدث بعد إستشهاده وظهرت عدة اتجاهات سياسية تدّعي انتماءه إليها.
)3(
في مساء يوم الاربعاء 21 أكتوبر 1964م كان هنالك نشاطاً سياسياً مكثفاً بجامعة الخرطوم وذلك بعد أن تم إقامة ندوة تستنكر وتدين القمع العسكري المتصاعد ضد التمرد بجنوب البلاد وارتفعت وتيرة الهتافات وعلا صوت الطلاب بالرفض والادانة والاستنكار فما كان من النظام إلا وأن كلف أحد الضباط بفض تلك الندوة المقامة في مجمع داخليات )البركس( بالجامعة ، ويستمر بالسرد شاهد عيان للزاوية بأنه كان خلف القرشي على بعد عدة امتار والقرشي يرتدي بنطالا رماديا وقميصا أبيض رُفعت اكمامه الى الكوعين وهو يهتف ويردد بعض الشعارات المناهضة وذلك بداخلية السوباط المجاورة لداخليات )البركس( حتى وقع اصطدام واشتباك عنيف بين الطلاب والعساكر المكلفين بفض التجمع وعندما اشتد العراك بين العساكر والمتظاهرين تم اطلاق بعض الأعيرة النارية التي أصابت أحدها القرشي في مقدمة رأسه حتي خرجت بمؤخرة الجمجمة ما أدى لنزيف دماء كثيرة وغزيرة حتى حمله زملاؤه على عجالة بالغة ووصلوا به الى مستشفى الخرطوم الذي لفظ فيه أنفاسه الاخيرة وصعدت روحه الطاهرة الى بارئها .
)4(
في عشية استشهاد القرشي اجتمع عدد كبير من أساتذة وعمداء جامعة الخرطوم مستنكرين ومدينين ذلك التصرف الغاشم ومن بين المجتمعين كان الدكتور حسن عبدالله الترابي الذي كان أستاذا بكلية القانون ، وقتها كانت نبرة الاجتماع حادة وغاضبة لدرجة أنه تم تقديم اقتراح بتقديم استقالات جماعية لكل الأساتذة من جامعة الخرطوم ووجد ذلك الاقتراح تجاوبا وقبولا كبيرين الا ان جريان سرعة المتغيرات ومستجدات الاحداث حالت دون ذلك خصوصا المشكلة الكبرى التي اندلعت بين طلاب جامعة الخرطوم والسلطات الامنية بمشرحة مستشفى الخرطوم حينما اراد الطلاب اخذ الجثمان من المشرحة والذهاب به الى جامعة الخرطوم بينما كانت تخطط جماعة اخرى لأخذ الجثمان مباشرة لأهله وذويه بقرية القراصة ولكن كان لتدخل مدير جامعة الخرطوم بروف النذير دفع الله وبعض الاساتذة الاثر الايجابي الكبير في تهدئة الاوضاع فلا نُقل الجثمان مباشرة الى القراصة ولا حمله الطلاب الى فناء الجامعة لأن الخرطوم كانت قد خرجت عن بكرة أبيها في صبيحة اليوم التالي من مشارقها الى مغاربها في جموع كانت هادرة وحزينة وغاضبة امام مشرحة مشفى الخرطوم فُحمل الجثمان من المشرحة الى شارع )الاسبتالية( حتى كوبري الحرية مرورا بخرطوم )3( حتى ميدان عبدالمنعم حيث صلى الجميع على الجثمان هنالك بعد ان أمّ المصلين السيد الصادق المهدي زعيم حزب الامة بحضور جمع غفير من السياسيين منهم د. محمد عبد الحليم وعبد الخالق محجوب الذي قدّم خطبة قوية آنذاك ود. الترابي الذي خطب قائلا سنصعد الموضوع قانونيا الى اعلى المراتب ونتقاضى معهم بصورة حضارية، بعد ذلك حُمل الجثمان الى منطقة الشهيد ومسقط رأسه )القراصة(.
)5(
نال القرشي شرف شهادة أول طالب سوداني ولكن يبقى هنالك عدد من الشهداء في أكتوبر سقطوا برصاص العسكر في تلك الفترة في الدويم يوسف علي الحاج وفي الابيض محمد عباس التيجاني وحسن احمد من مدني وكمال من كسلا ومن الفاشر محمد صالح احمد واحمد الامين.. حتى جامعة الخرطوم قدمت شهداء آخرين لم يجدوا حظهم من الإعلام كانوا قد اقتفوا أثر القرشي في نفس شهر ثورة أكتوبر منهم بابكر حسن عبد الحفيظ وعبد الرحمن محمد حران ومصطفى محمد مضوي حتى الإخوة الأقباط قدموا جولس ديمتري. ويذكر أن المراة السودانية ايضا نالت شرف شهداء اكتوبر فقدمت الشهيدة بخيتة المبارك الحفيان وعدد من الشهداء من المواطنين في مناطق مختلفة من العاصمة والاقاليم منهم على سبيل المثال لا الحصر ضوالبيت محمد بيلو وديفد مجوك وعلي احمد حسن ومحمد هارون وابراهيم محمد نور وقد ساعد في بروز ومعرفة هذه الاسماء وزير الصحة في حكومة سر الختم الخليفة الامين محمد الامين حيث اخرج كُتيبا بالتنسيق مع مستشفيات العاصمة والشرطة يحمل اسماء كل شهداء ثورة أكتوبر وجرحاهم وقد نشرت صحيفة الايام هذا الكُتيب في عددها الصادر في25 يناير 1965م حسب توجيهات السيد وزير الصحة .
)6(
ولأن أكتوبر كانت ثورة بكل ما تحمل كلمة ثورة من أبعاد ومعاني فقد أفرزت تلك الثورة أدباً جديداً اسموه اصطلاحا بأدب )الاكتوبريات( الذي جاء الحانا وانغاما من كبار الشعراء والملحنين الذين عبّروا باروع الكلمات والالحان ابرزها الملحمة التي نظمها الاستاذ هاشم صديق الذي وقتها كان يافعا في بواكير صباه حيث كتبها وخرج يهتف بها في الشارع ويردد المواطنين والطلاب من خلفه. لمّا الليل الداجي الطوّل – فجر النور من عينا اتحول الى ان يصل قوله . وجانا هتاف من عند الشارع قسماً قسماً لن ننهار ويصدح من بين ثنايا تلك الانغام صوت الرائعة ام بلينة السنوسي وهي تردد )وكان القرشي شهيدنا الاول( بجانب رائعة محمد المكي ابراهيم مع العملاق وردي )بأسمك الشعب انتصر وحائط السجن انكسر( امّا الاستاذ والصحفي الكبير فضل الله محمد كان من الطلاب الذين تم اعتقالهم بالسجن الحربي في احداث البركس ولم يخرج من السجن الا بعد 28 أكتوبر مع عدد من الطلاب وذلك بعد إعلان انتهاء فترة حكم العسكر فكتب من بين القضبان قصيدته الشهيرة التي غناه الموسيقار محمد الامين )أكتوبر واحد وعشرين – ياصحو الشعب الجبار – يا ملهم غضب الأحرار- ثم اردفها )بالمجد للآلاف ثم شهر عشرة حبابو عشرة ثم كتب الشاعر الدبلوماسي الراحل عبد الماجد حاج الامين )فالتقينا في طريق الجامعة – مشهداً يا موطني .. ما أروعا ادّها الفنان الكبير الكابلي بالاضافة الى نشيد الفيتوري الذي يردده وردي )اصبح الصبح( حتى ضباط الجيش كتبوا في اكتوبر منهم الشاعر والملحن الكبير ابراهيم الطاهر شاعرعزيز دنياي كتب )شعبك يابلادي شعبك اقوى واكبر مما كان العدو يتصور وهنالك روائع وابداعات اكتوبرية كثيرة يصعب سردها في تلك المساحة ألا رحم الله الشهيد أحمد القرشي طه محمد صالح واسكنه فسيح جناته مع الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا.