الإثنين 9 أغسطس 2021 - 11:28
بشفافية - حيدر المكاشفة<br />صبي الأورنيش النبيل

أسرتني جداً حكاية صبي الأورنيش التي رواها أديبنا الكبير فضيلي جماع، نقلا عن بوست بفيس بوك كتبه الأستاذ شريف سليمان، والحكاية تقص عن صبي ماسح أحذية سأل الرجل الجالس جوار كاتب البوست لدى بائعة شاي ما إذا كان بحاجة لمسح حذائه. حدد الصبي تعرفته بخمسين جنيهاً، إلا أنّ الرجل يقول بأن لديه عشرين جنيهاً. يجلس الصبي دون مساومة، ويدفع إليه الرجل بالحذاء. يقوم الصبي بخلع شبشبه ويقدّمه للرجل راجياً أن يضع فيه قدميه حتى لا تتسخ جواربه، يدفع هذا الإحساس النبيل صاحب الحذاء بأن يجرَّ بنبراً للصبي ليجلس عليه، لكن الصبي يعتذر بحجة أنه لو جلس على البنبر فلابد أن يطلب كوباً من الشاي وهو الذي بدأ عمله للتو. وعليه أن يفطر أولاً. يقوم جسر من الإلفة بين الرجل صاحب الحذاء والصبي ماسح الأحذية. يقول للصبي بأنه )عازمو فطور( .. ليقوم ويعبر الشارع حافياً ، حيث توجد كافيتريا. يشتري منها سندوتشين: أحدهما له والآخر للصبي ماسح الأحذية. وينخرط الإثنان في دردشة. فقد نمت بينهما إلفة مصدرها المواقف الإنسانية النبيلة من طرف كل منهما..وأظن أن الطفل فرض على الرجل صاحب الحذاء وعلى كاتب البوست موقفه الإنساني النبيل رغم صغر سنه ورغم حاجته الماسة لبعض المصروف الذي يقيم أوده وربما يعود به إلى أسرته المعدمة آخر اليوم. تنتهي القصة – حسب رواية الأستاذ شريف عثمان–بأن أعطى صاحب الحذاء حزمة من الجنيهات للصبي ربما فاقت ما توقع . إنصرف الصبي، وكلما مشى بضع خطوات رفع يده ملوحاً للرجل الذي أكرمه بهذه المنحة وبوجبة الفطور..
هذا الموقف من هذا الصبي لم يكن عندي مستغرباً ولا مستبعداً من كادحين مثله، فأنا أصلاً لدي قناعة قديمة وزعم قديم بأن الفقراء أكثر نبلاً وكرماً وقناعة وشهامة من الأغنياء، ولم تزدني الأيام وتجارب الحياة إلا قناعة بهذا الزعم، ولهذا لم أستغرب أو أُدهش من موقف الصبي ماسح الأحذية، فهكذا دائماً هم فقراء بلادي، رغم أنهم يقبضون على الجمر إلا أنهم لا يسألون أحدا منّة ولا عطية، بل تجدهم هم العاطون رغم ما بهم من خصاصة وتراهم أشد الناس غنى، فيما جيوبهم فارغة، كما تجدهم الأكثرين عند الفزع والأقلين عند الطمع رغم أن قلوبهم مثقلة بالأسى والآهات ورغم ما يقاسونه من آلام ومرائر، ورغم أنهم يتقلبون على نار الحاجة والفاقة والحرمان، ولكن مع ذلك يتجمّلون بالصبر والرضا، والقصص التي تعكس نبل وشهامة ورجولة هؤلاء الكادحين بعدد الحصى مما لا يمكن حصره هنا، وما الذي قدمه صبي الأورنيش إلا نموذج لمئات بل آلاف النماذج لأمانة ونزاهة وشهامة ومروءة فقراء بلادي، ومن هم في عدادهم، ولكن اسمحوا لي أن أتخير منها قصة الواثق صباح الخير الذي خصّه البروف علي المك رحمه الله بتوثيق سيرته، فالواثق هذا كان قد تم إعدامه وصلبه بموجب القوانين التي أطلق عليها مسمى الشريعة، وكانت جريمته التي قادته إلى هذا المصير، أنه كان يسرق من الأغنياء ويصرف على الفقراء، فكان يتسور المنازل الفخيمة ويسطو على المتاجر الكبيرة ليلاً، وعند حلول الصباح يكون قد وزع أغلب ما سطا عليه على الفقراء في حيّه الذي يقطنه وخارج حيّه، لقد كان شهماً وجسوراً وكريماً محباً للفقراء رغم أنه سارق ورغم أن غايته النبيلة لا تبرر وسيلته المحرّمة والمذمومة. لقد كانت قضية هذا الفتى اليافع الواثق أنه وجد فراغاً اجتماعياً فملأه بطريقته..
الجريدة