الجمعة 13 أغسطس 2021 - 13:13
جعفر عبـاس<br />والتقينا بطارق
زاوية غائمة - جعفر عبـاس


انطلقنا‭ ‬من‭ ‬مونتريال‭ ‬حيث‭ ‬هبطت‭ ‬الطائرة‭ ‬التي‭ ‬أقلتنا‭ ‬الى‭ ‬كندا‭ ‬صوب‭ ‬العاصمة‭ ‬أوتاوا،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬بلغنا‭ ‬وقتها‭ ‬ان‭ ‬الحفيد‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬ذهبنا‭ ‬انا‭ ‬وزوجتي‭ ‬لاستقباله‭ ‬قد‭ ‬هبط‭ ‬على‭ ‬كوكب‭ ‬الأرض،‭ ‬وطوال‭ ‬الرحلة‭ ‬بين‭ ‬المدينتين‭ ‬أبقيت‭ ‬على‭ ‬عيني‭ ‬مغمضتين‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬راغبا‭ ‬الا‭ ‬في‭ ‬رؤية‭ ‬الحفيد‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬اريد‭ ‬لأي‭ ‬مشهد‭ ‬ان‭ ‬ينتزع‭ ‬مني‭ ‬الإحساس‭ ‬بأن‭ ‬الله‭ ‬مد‭ ‬في‭ ‬ايامي‭ ‬حتى‭ ‬صرت‭ ‬جدا،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬ظللت‭ ‬ازعم‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬ان‭ ‬عمري‭ ‬39‭ ‬سنة،‭ ‬لأنني‭ ‬شديد‭ ‬النفور‭ ‬من‭ ‬‮»‬العجز‮«‬,‭ ‬ولا‭ ‬أريد‭ ‬مسمى‭ ‬عجوز‭ ‬أو‭ ‬كهل‭.‬
وصلنا‭ ‬أوتاوا‭ ‬وألقينا‭ ‬حقائبنا‭ ‬في‭ ‬صالة‭ ‬الاستقبال‭ ‬في‭ ‬الفندق‭ ‬الذي‭ ‬حجزنا‭ ‬فيه‭ ‬مسكنا‭ ‬عبر‭ ‬الانترنت،‭ ‬وقلنا‭ ‬لموظف‭ ‬الاستقبال‭ ‬اننا‭ ‬سنكمل‭ ‬إجراءات‭ ‬التسجيل‭ ‬في‭ ‬الفندق‭ ‬لاحقا،‭ ‬وانطلقنا‭ ‬خارجين‭ ‬والموظف‭ ‬المسكين‭ ‬يركض‭ ‬خلفنا‭ ‬وهو‭ ‬يصيح‭: ‬اكسكيوز‭ ‬مي‭.. ‬معذرة‭ ‬الأمور‭ ‬لا‭ ‬تتم‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة‭!! ‬ربما‭ ‬حسب‭ ‬المسكين‭ ‬اننا‭ ‬تجار‭ ‬مخدرات‭ ‬تعرضنا‭ ‬للمطاردة‭ ‬وقررنا‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬حقائبنا‭ ‬والفرار‭ ‬من‭ ‬المكان،‭ ‬فأخرجت‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬عجل‭ ‬جوازات‭ ‬سفرنا‭ ‬فطالع‭ ‬الأسماء‭ ‬واطمأن‭ ‬الى‭ ‬انه‭ ‬بالفعل‭ ‬كان‭ ‬يتوقع‭ ‬قدومنا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬وسمح‭ ‬لنا‭ ‬بالمغادرة‭ ‬فتوجهنا‭ ‬الى‭ ‬المستشفى‭ ‬حيث‭ ‬ولد‭ ‬الحفيد‭ ‬‮»‬طارق‮«‬‭.‬
كما‭ ‬جميع‭ ‬حديثي‭ ‬الولادة‭ ‬كان‭ ‬طارق‭ ‬ذا‭ ‬ملامح‭ ‬غير‭ ‬‮»‬مستوية‮«‬,‭ ‬والتجاعيد‭ ‬تغطي‭ ‬معظم‭ ‬أجزاء‭ ‬جسمه،‭ ‬ولكن‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬لفت‭ ‬انتباهي‭ ‬وأسعدني‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬بادي‭ ‬السمرة‭.. ‬سوداني‭ ‬أصيل‭ ‬في‭ ‬دمه‭ ‬يجري‭ ‬النيل،‭ ‬وكل‭ ‬بضع‭ ‬دقائق‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬ممرضة‭ ‬تأتي‭ ‬لحمله‭ ‬الى‭ ‬غرفة‭ ‬أخرى‭ ‬لإجراء‭ ‬فحوصات‭ ‬روتينية‭ ‬عليه‭ ‬فأتبعها‭ ‬الى‭ ‬تلك‭ ‬الغرفة‭ ‬وهي‭ ‬وطاقم‭ ‬المستشفى‭ ‬ينظر‭ ‬الي‭ ‬في‭ ‬دهشة‭ ‬باعتبار‭ ‬انني‭ ‬حشري،‭ ‬بل‭ ‬يبدو‭ ‬انني‭ ‬أفرطت‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬الحشرية‭ ‬بطرح‭ ‬أسئلة‭ ‬عديدة‭ ‬عليهم‭ ‬حول‭ ‬‮»‬لماذا‭ ‬تجرون‭ ‬هذه‭ ‬الفحوصات؟‮«‬,‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬ان‭ ‬إحداهن‭ ‬سألتني‭: ‬هل‭ ‬انت‭ ‬طبيب؟‭ ‬وكان‭ ‬سؤالا‭ ‬استنكاريا‭ ‬فقلت‭ ‬لها‭ ‬إنني‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬طبيبا‭ ‬لما‭ ‬طرحت‭ ‬الأسئلة،‭ ‬وأفحمتها‭.‬
أمضينا‭ ‬في‭ ‬كندا‭ ‬ثلاثة‭ ‬أسابيع‭ ‬لم‭ ‬نزر‭ ‬خلالها‭ ‬شلالات‭ ‬نياجرا‭ ‬أو‭ ‬متحفا‭ ‬او‭ ‬معلما‭ ‬تاريخيا‭ ‬او‭ ‬متنزها‭ ‬طبيعيا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬وقتنا‭ ‬مخصصا‭ ‬لطارق،‭ ‬ونقضي‭ ‬النهار‭ ‬بطوله‭ ‬ومعظم‭ ‬ساعات‭ ‬الليل‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬أهل‭ ‬أم‭ ‬طارق‭ ‬ثم‭ ‬نعود‭ ‬الى‭ ‬الفندق‭ ‬في‭ ‬الساعات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الفجر‭ ‬لننام‭ ‬قليلا‭ ‬ثم‭ ‬نستأنف‭ ‬مجالسة‭ ‬طارق،‭ ‬وكان‭ ‬الممتع‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬ان‭ ‬السودانيين‭ ‬في‭ ‬كندا‭ ‬طوقونا‭ ‬بالحنان‭ ‬والحب‭ ‬والأنس،‭ ‬فقد‭ ‬كانوا‭ ‬يتوافدون‭ ‬علينا‭ ‬في‭ ‬دفعات‭ ‬أو‭ ‬يخرجون‭ ‬بنا‭ ‬الى‭ ‬هنا‭ ‬او‭ ‬هناك‭ ‬لنقضي‭ ‬ساعات‭ ‬طوالا‭ ‬في‭ ‬الأنس،‭ ‬وطوال‭ ‬الأسابيع‭ ‬الثلاثة‭ ‬لم‭ ‬أذق‭ ‬غير‭ ‬أشهى‭ ‬أطباق‭ ‬الأكلات‭ ‬السودانية،‭ ‬وكانت‭ ‬العائلات‭ ‬السودانية‭ ‬المقيمة‭ ‬هناك‭ ‬على‭ ‬عادة‭ ‬أهل‭ ‬السودان‭ ‬قد‭ ‬تقاسمت‭ ‬جدول‭ ‬استضافتنا‭ ‬بأن‭ ‬يأتونا‭ ‬بالطعام‭ ‬حيث‭ ‬يقيم‭ ‬طارق‭ ‬وأهله‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الأم،‭ ‬وحاول‭ ‬بعض‭ ‬أهلنا‭ ‬المقيمين‭ ‬هناك‭ ‬حثنا‭ ‬على‭ ‬زيارة‭ ‬مناطق‭ ‬جميلة‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬لكل‭ ‬زائر‭ ‬لكندا‭ ‬ان‭ ‬يغشاها،‭ ‬فقلنا‭ ‬لهم‭: ‬ان‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬مع‭ ‬المولود‭ ‬الثاني‭ ‬والثالث‭.‬
بعدها‭ ‬بثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬جاء‭ ‬الدور‭ ‬على‭ ‬حفيدي‭ ‬الثاني‭ ‬زياد‭ ‬ليهبط‭ ‬على‭ ‬كوكب‭ ‬الأرض‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬أوتاوا‭ ‬الكندية،‭ ‬ولكن‭ ‬فيروس‭ ‬كوفيد‭-‬19‭ ‬قال‭ ‬لي‭: ‬لو‭ ‬أنت‭ ‬راجل‭ ‬من‭ ‬ظهر‭ ‬راجل‭ ‬روح‭ ‬كندا‭ ‬لاستقبال‭ ‬زياد‭!! ‬فقلت‭ ‬للفيروس‭ ‬إنني‭ ‬لا‭ ‬أصارع‭ ‬أقزاما‭ ‬مثله‭ ‬وأنه‭ ‬لو‭ ‬هو‭ ‬راجل‭ ‬يظهر‭ ‬أمامي‭ ‬عيانا‭ ‬بيانا‭ ‬كي‭ ‬تحدث‭ ‬المواجهة‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬ان‭ ‬يتخفى‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬ويغيِّر‭ ‬جلده‭ ‬وهو‭ ‬ينتقل‭ ‬من‭ ‬انسان‭ ‬الى‭ ‬انسان‭ ‬ومن‭ ‬مكان‭ ‬الى‭ ‬مكان،‭ )‬الفيروس‭ ‬الجبان‭ ‬يتجول‭ ‬حاليا‭ ‬في‭ ‬الهند‭ ‬باسم‭ ‬مستعار‭ ‬هو‭ ‬دلتا،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنه‭ ‬يستهدف‭ ‬البلاد‭ ‬الكثيفة‭ ‬السكان‭ ‬فقد‭ ‬بدأ‭ ‬نشاطه‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬عام‭ ‬2019‭ ‬في‭ ‬الصين‭ ‬حيث‭ ‬عديد‭ ‬السكان‭ ‬نحو‭ ‬مليار‭ ‬ونصف‭ ‬المليار،‭ ‬ثم‭ ‬استخرج‭ ‬أوراقا‭ ‬ثبوتية‭ ‬جديدة‭ ‬وحل‭ ‬في‭ ‬الهند‭ ‬ذات‭ ‬المليار‭ ‬وبضعة‭ ‬مئات‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬السكان‭(.‬