الإثنين 6 يونيو 2022 - 10:55

كانت ليلةً مخيفة..
ثم هي الأطول في حياتي..
والأسوأ… والأبرد… والأغرب… والأشد إخافةً؛ كذلك..
وأصلاً ليالي البلد تحفها الغرائبيات..
أو تبدو لي هكذا في نظري؛ على الأقل..
كان بردها – في ذلكم الوقت من شهر كياه – لا يُحتمل؛ رغم الأغطية الصوفية..
وكنت أقضي جانباً من دراستي الابتدائية هناك؛ بالبلد..
لم أنم – تلكم الليلة – حتى لحظة التنبيه للصلاة..
والريح ذات العواء المرعب لم تتوقف إلا في اللحظة ذاتها أيضاً..
وفضلاً عن رعب زئير الريح كان ثمة شيءٌ أشد إرعاباً..
وأصل الحكاية أن من بين زملائي في الفصل توأم؛ هما حسن… وحسين..
وحسين كان مصاباً بشلل الأطفال؛ حسبما سمعت..
وساعده الأيمن الناحل اُمتص منه ماء الحياة؛ فبدا كالعرجون القديم..
أما اليد – بأصابعها الرفيعة – فأشبه بمخالب طائرٍ نافق..
وهي أكثر ما كان يشد انتباهي من بين عجائب المدرسة كلها؛ وما أكثرها..
ومنها أن عقوبة الجلد في فصل الشتاء لها طقوسها..
فهي لا تستهدف إلا اليد؛ ظاهرها بالمسطرة… وباطنها بفرع شجرة أعجف..
ومنها جلب البطيخ والشمام من السوق نهار الخميس..
ثم التهامهما بشراهة في المدرسة؛ ولا أدري لم الخميس بالذات… ولم أسأل..
ومنها تخصيص حصة صباحية لرياضة كرة القدم..
فإذا بدأت حصص الدروس سال العرق – مع الحبر – على الكراسات..
وكانت إدارة المدرسة تتكفل بإفطار التلاميذ بواسطة متعهد..
كل خمسة منهم يتحلقون حول صحن كبير؛ فيمتلئ الحوش بالمتحلقين والصحون..
وحسبته سوء حظ – وقتها – حين وجدت حسيناً في حلقتنا..
أو بالأحرى هو الذي وجدني ضمن حلقته؛ فهو الأقدم… وأنا عابر فصول..
فما كنت أستسيغ الأكل لشيء في نفسي العوَّافة… آنذاك..
ثم توفي حسين هذا فجأة؛ مع مقدم شهر كياه… أو كياح كما ينطقه البعض منا..
فبكته المدرسة… وأشجارها… وأحبارها… وعصافيرها…. وأنا..
أنّبني ضميري جداً؛ ثم جاء الليل بزمهريره – وزمجرته – فضاعف أحزاني..
فمن أساطير منطقتنا أن مع عويل ريح كياه عويل أرواح موتى..
ليس كل الموتى الحديثين؛ وإنما الذين ماتوا منهم غضابا..
ولم يمت يومها سوى حسين؛ فهي إذن روحه… وهي غاضبة مني ولا شك..
فقد كانت نظراته تفضح إحساسه بشعوري المفضوح نحوه..
كانت نظرات جريحة… أسيفة… كسيرة..
وتفتأ الريح تعوي… وتصرخ… وتزمجر… ولا تبرح محيط منزلنا؛ هكذا ظننت..
بل وظننت أنني سمعت اسمي مراراً؛ كلما صفقت الريح شيئا..
وحين بدأ المؤذن ينبه لصلاة الفجر سكتت الريح فجأة؛ وسكنت الروح..
أو لعلها سكنت بعد أن سكت عنها الغضب تجاهي..
وسكتت هواجسي – ومخاوفي – أنا فنمت..
واستمدت روحي أنا من سوء الحظ ذاك حسن حظ بتعلم الدرس باكراً..
درس عدم التأفف من أي روح… هي من روح الله..
وشكراً أيتها الروح..
روح حسين!!.