الجمعة 22 يوليو 2022 - 20:56

الخرطوم: سعيد عباس
نجتر الذكريات ونغوص في بحور الوجد والشجن مع أحد عمالقة الشعر الغنائي السوداني مع شاعرنا الكبير الصادق إلياس الذي يعتبر أحد أعمدة وركائز الغناء السوداني لماقدمه من أعمال ساهمت كثيرًا في تشكيل وجدان الشعب السوداني. فالصادق إلياس بقدر ماهو شاعر مجيد في الشعرأيضاً هو خطيب ومتحدث لبغ يستطيع أن يجذب وباهتمام كبير أحاسيس كل من يستمع إليه، فهو من القلائل الذين يستطيعون توظيف النكتة والطرفة توظيفًا بلاغيًا يخدم به محاور حديثه بصورة سلسة وجاذبة،وكان في إحدى المناسبات طلب منه الدكتور عبد القادر سالم نظم أغنية جديدة، فقال له عبدالقادر )عايز لي حاجة كدا تشبهني(، فرد الصادق إلياس بسرعة بديهته المعهودة قائلًا )يعني عايزة طويلة وزرقا(.
يعتبر الصادق محطة ثابتة ورقمًا لايمكن تجاوزه في تجربة الفنان الراحل أحمد الجابري رغم أنه كتب لعدد من الفنانين منهم )صلاح ابن البادية في )اعمل ايه ماالباقي باقي ( وزكي عبدالكريم )انت يابسام( والامين عبد الغفار )قصة الشوق ياحياري( ومصطفى سيداحمد) فرح الغلابة( واللحو)التوب( وكثير من الاعمال الرائعة للجابري منها )الجريف واللوبيا ومن طرف الحبيب وحكاية ملام …إلخ( فقد كانت كلمات الصادق إلياس تعكس أشجان وأحزان ومشاكل المجتمع الذي يعيش فيه فهو رجل قادر على تصوير أحاسيس الغير لدرجة التقمص خاصة عندما أخرج الجابري من حزنه وألمه على فراق والدته التي كان يحبها حباً جما ورفض الجابري العودة الي الغناء نهائيًا ويرجع ذلك إلى ان الجابري كان ممارضًا والدته لفترة طويلة وجاء إليه أحد الاشخاص بغرض إحياء حفل زواج فرفض الجابري ولكن إخوانه واصدقاءه اصروا عليه علىأن يذهب فلبى الجابري طلبهم ولكنه تفاجأ بعد انتهائه من الحفل بوجود صيوان عزاء بمنزلهم يعلن وفاة والدته بعدها دخل الجابري في صدمة حزن عنيفة لأكثر من عامين أوقف فيها الفن والغناء حيث كان يقضي جل وقته بمقابر البكري بجوار قبر والدته. شاعرنا الصادق إلياس استطاع ان يغوص داخل أحزان الجابري ويتعمق في آلامه ويترجم ذلك شعرًا في رائعته )حكاية ملام( التي استطاع من خلالها أن يقنع الجابري بالعدول عن رأيه والعودة إلى عوالم الفن خصوصًاأن القصيدة تلمس بشكل مباشر أوتار الحس الداخلي للجابري لأشجان الجابري تجاه مصيبته فوافق الجابري، وقال هذه الأبيات التي كنت أبحث عنها خصوصًا عندما بدأية القصيدة وهي تقول:
*اخت اللّوم على نفسى
و لا اتحسر على عمرى
ولاّ اكوس مكانى الراح
مع الغائبين فضل يجرى..
اخت اللوم على نفسى
و ارجع اقول انا الغلطان
ويتصاعد الحزن بصوت الجابري بصورة مؤلمة خصوصًا عندما يأتي في الوصلة التي يغني فيها
*لقيت جا عصار غشا البلدات
و عاد كيفن الاحق الفات
و الاحق الريح وقت يجرى..
حكايتى مع الملام طالت
ولكن إذا حاولنا ان نسترسل في مواضع البلاغة وتصوير الحزن معاً نجد ان القصيدة بأكملها تستحق ان تُدرج في هذه المساحة المحدودة والجابري يجعل من الحزن سيداً للموقف عندما يقول
*فقِد محبوب على مكتوب
اقش فى دمعى ما اتجفف
وبعد ذلك بدأ الصادق والجابري يناجيان نفسيهما بموضوعية عاطفية علها تكون بلسمًا يهدهد بعض أوجاع الدواخل في هذا المقطع
*يا ريت اللوم يرجعني
و يرجع حالي لى حالو
و ألم الباقي من عمري
وأجيب البال من الشالو
أخذ الجابري هذه الأغنية وذهب بها إلى الإذاعة التي وجدها في أشد الشوق إليه وغناها كما لم يغن من قبل فشكلت الاغنية انقلابًا إبداعيًابالوسط الفني ولكن الجابري لم يعش طويلًا بعد هذه الاغنية وبعد عامين أو أقل من ثلاثة أعوام فارق الجابري الحياة.