الأحد 28 يونيو 2020 - 6:11
بدوية سياسية


“كيف لا / منى عبد الفتاح”


رسَّخ النظام السابق من ظاهرة السياحة الحزبية بانتقال السياسيين من حزبٍ إلى آخر، ولم تسلم كتل القوى السياسية من الانتقال هي الأخرى والاندماج في بعضها البعض من جانب، وائتلافها مع الحزب الحاكم من جانبٍ آخر بغرض الحصول على المكاسب واقتسام السلطة. وظهرت بشكلٍ أكبر في تسلُّق عدد من أعضاء الأحزاب وانضمامهم لأحزابٍ أخرى من اليسار واليسار المتطرف إلى اليمين والعكس صحيح، حتى صارت أغلب الأحزاب هجين أيديولوجي ذابت فكرتها المؤسسية بين الانتماءات وفقدت برامجها الواضحة. وانتقلت هذه الظاهرة بعد ثورة ديسمبر 2018 وظلت ملازمة للفترة الانتقالية لعدة عوامل منها: عدم مؤسسية الأحزاب، وتخييم حالة البداوة السياسية على الأحزاب مما حرمها من المواكبة والتجديد في الفكر والقيادة، وعدم الالتزام بالبرامج الانتخابية، مما يهدِّد عملية التحول الديمقراطي في السودان.
يتسم التكوين الحزبي السوداني بالروح القبلية والجهوية والولاءات المختلفة، مع شيوع التنقُّل بينها. ومع خضوع الحزب لرئيس واحد لأكثر من نصف قرن مثلما في نموذجي حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي، فقد أسَّست هذه الصفات مع غيرها لما يُعرف بالبداوة السياسية. واستطاعت الأحزاب السودانية المختلفة التعايش مع فترات حكم النُظم العسكرية التي تخللتها تجارب ديمقراطية قليلة، ذلك أنَّ تكوينها الداخلي لا يخضع لانتخابات وإنَّما لسلطوية تُعلي من مكانة زعيم الحزب. وإلى الآن لا نجد نقداً ظاهراً لنموذج الأحزاب العقائدية والطائفية التي تلتف حول مسلمَّات تاريخية، مما يهيء السودان للعودة إلى موجة بدوية سياسية أخرى تحت غطاءٍ ديمقراطي. وبذا تكون النخب قد عجزت عن إنشاء مشاريعها التنظيمية الكبيرة المتسمة بالمرونة والقادرة على القيام بوظيفتها الأساسية التي تسمح لها بالتواصل والاستمرار والريادة.
في إطار السعي إلى تحويل الممارسة السياسية إلى خيار قوي ومنافس يقوم على مؤسسية رصينة، لا بد من النظر إلى حالة الكيانات السياسية، فأغلبها تكلَّس عند شكل التكوين الأول. عملت عوامل أخرى على اهتزاز مؤسسية الأحزاب كاستشراء الفساد في النظام السابق، وانقسامات انتمائها تارةً للمعارضة وتارةً أخرى للائتلاف الحكومي.
يمرُّ المشهد السياسي السوداني الحالي بتطور مرحلي بدأ منذ قيام الثورة ثم الفترة الانتقالية عبوراً إلى فترة إجراء الانتخابات للوصول إلى التحول الديمقراطي. وتحمل الفترة الانتقالية عبء التاريخ الحزبي المشوَّش إذ تعاني جلَّها منها الجمود الحزبي الهيكلي والفكري، مع كمٍّ هائل من الأحزاب السياسية موروث من العهد السابق. ومن المتوقع أنّ يواجه الناخبون الموعودون بأمل ديمقراطي قريب مهمة شاقّة في تحديد الحزب الذي سيمثّل مصالحهم وهمومهم بناءً على برامجه الانتخابية، فهذه الأحزاب، عتيقها وحديثها لم تنجح حتى الآن في طرح برامج مقنعة تلامس احتياجات المواطنين، كما تعاني من عدم اتساق الهويات.
على أعتاب كل فترة ديمقراطية يكون هناك اشتباكٌ تقليدي بين المحافظين والحداثيين، أما في هذه الفترة فتغيب البرامج والأفكار الحداثية. ولكن ما يُلاحظ هو تقلص الأيديولوجيا اليمينية وبروز أيديولوجيا اليسار بالإضافة إلى الأحزاب المتحولة عن الحركات المسلحة. وفي انتظار الانتخابات الديمقراطية التي ستجري بنهاية الفترة الانتقالية، نشهد نفس الوجوه وبنفس المرجعيات القديمة وعلى ذات حالات التنقُّل بين الأحزاب. أما الميزة النسبية التي اكتسبها الشارع السوداني فهي عودة القوى المجتمعية إلى الواجهة، وهي التي عمل تشبث النظام السابق بالحكم لمدة ثلاثين عاماً على تهميشها.
لم تستفد الأحزاب السودانية العريقة من تاريخها لتبني قاعدة جماهيرية جديدة، ولم تهتم بالتغيير في بنية المجتمع والتعامل وفقاً لتطوره. وفي ثنايا هذا الفشل بحثت الحكومة السابقة عن كسب زمن إضافي بزعمها أنّها المبادِرة إلى الحوار الذي قد يأتي أو لا يأتي، كما تبحث الحكومة الحالية عن زمنٍ يتعدّى عامها الأول، بينما الشعب في انتظار جودو آخر ليقيل عثرته