الإثنين 29 يونيو 2020 - 15:02
بقلم: النور حمد
‏ظللنا نقرأ فيما تتناقله بعض الصحف ووسائط التواصل الاجتماعي، في الفترة الماضية عن مغازلاتٍ مكشوفةٍ يقوم بها كارهو الثورة للمكون العسكري لينقض على الفترة الانتقالية. ضمن هذا السناريو، يخرج من حينٍ لآخر أئمةٌ من المنتفعين من النظام المدحور، من على منابر المساجد، فيحلفون بإيمانٍ مغلَّظةٍ أن حكومة الثورة لن تكمل عامها الأول. وهو ما يدل أن لديهم معلوماتٌ من نظراءٍ لهم، داخل الأجهزة العسكرية، تبشرهم وتمنِّيهم بالعودة للحكم. وقد فضح هذا النوع من العسكريين، متظاهرٌ ذهب إلى القيادة العامة قبل فترة، ضمن تظاهرة طالبت بحكمٍ عسكري، مرددةً، دونما حياء: )الكاب ولا الأحزاب(. قال هذا المتظاهر للضابط الكبير، حين طلب منهم الانصراف: )ما قلتوا لينا تعالوا؟ ليه تخذلونا؟(. يضاف إلى هؤلاء وأولئك، مجموعة الصحفيين الذين ترعرعوا في عالم الصحافة على يد الانقاذ، فصاغت منهم مخاتلين بلا ضمائر، يعملون الآن، من داخل البلاد وخارجها، في تهيئة الجو انتظارًا لانقلابٍ عسكري.
اهتمامي في هذه المقالة القصيرة ينصب في تسليط الضوء على هذه العقلية التي لا تتوب من الانقلابات. في انتخابات 1986، التي أعقبت انتفاضة أبريل، أحرزت الجبهة القومية الإسلامية، بقيادة الدكتور الترابي، ولأول مرة في تاريخها، أكثر من خمسين مقعدًا في البرلمان. وبدلاً من أن تسير في وجهة تثبيت النظام الديمقراطي، وتوسيع قاعدتها الجماهيرية، لتدخل عددًا أكبر من النواب إلى البرلمان، في الانتخابات التي تلي، أمضت الجبهة الإسلامية الوقت في اختراق الجيش تمهيدًا للانقلاب على النظام الديمقراطي. نفذت انقلابها في يونيو 1989، وحكمت ثلاثين عاما ولخص خلاصة حكمهما الرئيس المخلوع، قائلا في اعترافٍ متلفزًا، إن بنك السودان ليس فيه أكثر من مئة ألف دولار، وأن مخزن المواد البترولية يكفي ليومين. أما مخزون الدقيق فيكفي لأسبوع واحد. عاشت البلاد في حالة حرب دائمة، حتى انفصل الجنوب. كما تدمر الاقتصاد، وانعزلت البلاد من المجتمع الدولي. وحدثت أنماط من الفساد لا مثيل لها على ظهر الكوكب. ورغم كل ذلك، لا يزالون يريدون انقلابًا عسكريًا يعيدهم إلى السلطة، التي مارسوها لثلاثين عاما وانتهت بانهيار اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ وثقافيٍّ شامل.
هذا العقل، عقلٌ مأزوم. ولن يبلغ به أصحابه أي طائلٍ، ما لم يعترفوا بأزمته أولا، ثم يعملوا على معالجتها. جوهر أزمة هذا العقل هو الامتلاء الأرعن، والأجوف، بالشعور بالاستحقاق، فحواه: “لا أحد أفضل منا، ولا أولى منا بالحكم”. هذا النمط من الرعونة يمنع من رؤية الأخطاء. ولقد شهدنا كيف خرجوا علينا بفقه التحلل حين سرقوا المال العام. من الصعب الوصول مع هذا النمط من العقول إلى اتفاقات حدٍّ أدنى. أي، من المستحيل أن يصل الشخص السوي، معها إلى ثوابت مشتركة. لقد أسرف علينا أهل هذا العقل الاستبدادي، أيما إسراف، بالمحاولات الدؤوبة لخلق حالة اختناق عامة. بل، وافتعال انفلاتاتٍ أمنيةٍ ليجد العسكر ذريعةً لنقض الوثيقة الدستورية واستلام زمام الأمور، وشطب ثورة ديسمبر. لكن، من قال لهم إن العسكر سوف يعيدون إليهم السلطة؟ عليهم فقط أن يتذكروا ماذا فعل البشير بالترابي، الذي أتى به من ثكنات الجيش وجعل منه رئيسًا للجمهورية. تذكروا يا هؤلاء: “إن كل تجربةٍ لا تُوْرِث حكمةً تكرر نفسها”. المستقبل، كل المستقبل، في الديموقراطية، فاستثمروا فيها، وحدها.