السبت 4 سبتمبر 2021 - 13:47

أرسل لي الأستاذ د. مزمل أبو القاسم الكاتب والصحافي المجود مقالاً خطه يراعه يوم الثاني عشر من ديسمبر 2018 قبل اندلاع ثورة شعبنا المجيدة مباشرة، يصف فيه الحال آنذاك واصفاً الأوضاع بالغة السوء بداية بـ “صفوف السيارات تمتد بالكيلومترات أمام محطات الخدمة في كل أرجاء السودان، والشُح يشمل البنزين والجازولين في آنٍ واحد، ولا يستثني الغاز” واستطرد قائلاً “غابت مركبات النقل العام من المواقف، وتعطلت الحركة بسبب غياب المواصلات.” ثم عرج على أزمة الخبز وقتها بالقول أن “صفوف الخبز تتطاول في كل المخابز، وفِي كل مخبزٍ يوجد صفان، أحدهما للرجال والآخر للنساء.” ثم دلف لوصف الوضع في الجهاز المصرفي الذي وصلت حالته حينها على حد تعبيره “عجزت البنوك عن توفير الحد الأدنى من الكاش لعملائها، فانصرف الناس عنها، وفقدوا ثقتهم فيها” ثم تحدث عن قيمة العملة الوطنية قائلاً “سعر الدولار تجاوز الثمانين جنيهاً، ويسير إلى ارتفاع، وباتت للدولار عدة أسعار” وأن “الفارق بين سعر الآلية والسعر الموازي وصل أربعين جنيهاً، وترتفع بوتيرة مرعبة وفي السودان الحافل بالعجائب اقترن الكساد بالتضخم، وفاقت نسبة الأخير 70‎%‎ . ثم تحدث د. مزمل عن وضع الدواء قائلاً “الدواء تحدثت الأخبار عن تراجع رصيد الإمدادات الطبية من غالبية الأدوية المنقذة للحياة، وتحدث وزير الصحة الاتحادي محمد أبو زيد مطالباً البنك المركزي بتوفير )400( مليون دولار، لوضعها تحت تصرف الصندوق القومي للإمدادات الطبية ومجلس الأدوية كي لا تستفحل أزمة الدواء” وأخيراً وصف الوضع داخل الشرطة قائلاً “أما وزير الداخلية فقد دق ناقوس الخطر بحديثه عن حدوث تسربٍ كبير من قوات الشرطة بالاستقالة، بسبب ضعف المخصصات”
أردف د. مزمل أبو القاسم إرسال هذا المقال بعبارة أرسلها منبهاً ومشفقاً قال فيها “ما أشبه الليلة بالبارحة وما أشبه الخلف بالسلف والعاقل من اتعظ بنفسه والعاقل من اتعظ به الآخرون” ولو سمح لي أستاذي العزيز د. مزمل بالاختلاف معه فإننى أرى أن بصيرة زرقاء اليمامة التي أعانته في كتابة مقاله في ديسمبر 2018 لم ترافقه وهو يشبه واقع حالنا الآن بتلك الأيام الكالحات.
بداية أشكر للأستاذ مزمل توثيقه لتلك الأيام التي بلغت فيها روح شعبنا الحلقوم، لم تكن الضائقة المعيشية فقط هي مصدر غضب شعبنا وثورته، بل رافق ذلك الاستبداد وتكميم الأفواه والحروب الأهلية والإبادة الجماعية والوجود في كافة قوائم الإدانة والحصار العالمي. ثار شعبنا فاسترد حريته وأوقف الحرب الأهلية متوصلاً لاتفاق سلام السودان ولا زالت الخطى تسير لاستكماله وخرجت بلادنا أخيراً من قوائم الإرهاب العالمي ووصلنا نقطة إعفاء ديون تطاول أمدها وصرنا موضع احتفاء العالم واقتدائه بعظمة ما أنجزه شعبنا، ليس هذا فحسب بل سارت حكومة الشعب الانتقالية بخطىً حثيثة في سبيل معالجة الضائقة المعيشية التي أسهب د. مزمل في وصفها فنجحت في غالبها وتبقى بعضها وهو ما سأوضحه تباعاً فيما يلي:
1. صفوف الوقود لم تعد تمتد بالكيلومترات كما كان الحال، اختفت الصفوف بعد تطبيق حزمة سياسات الحكومة الأخيرة وانتهى سوق الوقود الموازي وتم ترشيد الاستيراد عبر آليات خففت الضغط على النقد الأجنبي وبدأت الدولة سياسة زيادة الإنتاج النفطي للوصول للاكتفاء الذاتي في سنوات محدودة.
2. تناقصت صفوف الخبز بصورة كبيرة للغاية بعد اتباع الحكومة الانتقالية لسياسة التوسع في إنتاج القمح المحلي الذي شهد في العامين الماضيين أرقاماً غير مسبوقة في الإنتاجية، كما وفرت الدولة عبر صلاتها الخارجية والاستيراد المباشر مخزوناً يضع بلادنا في موقف مريح حتى نهاية هذا العام و يجري العمل هذه الأيام على توفير قمح العام 2022.
3. انتهت أزمة الكاش تماماً وصارت قصة من الماضي، كما اختفى سوق الدولار الموازي ولم تعد هنالك أسعار متعددة للدولار كما كان الحال عليه في السابق، حدث هذا بعد عامين من تدهور سعر العملة الوطنية لنصل أخيراً لنقطة استقرار نأمل ونعمل أن تستمر ولا نعود إلى تلك العهود الكالحة.
4. تقلصت فجوة الدواء في الامدادات الطبية من 400 مليون دولار كما كان الحال في العام 2018 إلى 32 مليون دولار الشهر الماضي وديون تراوح الـ 60 مليون دولار. وتم بحمد الله توفير مبلغ الـ 32 مليون دولار عن طريق محفظة السلع الإستراتيجية ووزارة المالية والإمدادات الطبية وبدأت عملية فتح اعتمادات استيراد الدواء الناقص في مخزون الإمدادات الأسبوع الماضي ومن المتوقع انتهاء هذه الفجوة تماماً قبل منتصف هذا الشهر مع وضع برنامج محكم حال تنفيذه بواسطة وزارة المالية فإن هذه الفجوة لن تتكرر مرة أخرى.
5. وضعت الشرطة معالجات لضعف المخصصات عبر حزمة نفذتها بالتعاون مع وزارة المالية بدأت في يوليو الماضي، نأمل في تطويرها لتفي باحتياجات هذا القطاع المهم في بناء بلادنا وتأمينها.
6. تم معالجة كل هذه الإشكاليات ولا زالت أمام ثورة شعبنا مصاعب لتقطعها بما يحسن حياة الناس ويجودها .. لا زالت مشاكل الغلاء والتضخم والبطالة والكهرباء تنتظر المزيد من العمل والجهد، وهو ما سيتحقق بإذن الله طالما ظل شعبنا مستمسكاً بثورته وحامياً لها ومستكملاً لأهدافها.
الوضع ليس وردياً الآن، ولا زالت بلادنا تعاني وتكابد وتسعى للفكاك من عقود من الخراب والدمار الذي حاق بكل ركن فيها … المهمة ليست سهلة بل شاقة وتتطلب صبراً على المكاره ورؤية لا تزيغ عن أولويات شعبنا وقضاياه … هنالك أخطاء تقع وبطء في بعض الأحيان .. نسقط وننهض فالبشر لا يعرفون الكمال .. لا نسير في طريق ممهد مفروش بالورود بل نمشي على شوك الثورة المضادة وضعف مؤسسات الدولة وحاجتها للإصلاح .. مع كل هذا فليسمح لي د. مزمل بالاختلاف مع وصفه، فالليلة لا تشبه البارحة فقد زالت الشمولية والاستبداد ودان الأمر لشعبنا حراً لا يتسلط باطش على رقابه .. مارد شعبنا الذي نهض يلزمه سير طريق طويل لإنهاء كل أزمات البلاد المتراكمة التي لن تختفي بين عشية وضحاها، وقديماً قال نيلسون مانديلا واصفاً تجربته عقب انتهاء حكم الفصل العنصري “السر الذي اكتشفته هو أنه عند النجاح في تسلق جبل كبير سأرى جبالاً أخرى تنتظر لأقطعها. يمكنني حينها أن آخذ قسطاً من الراحة وأن أتأمل في جمال المنظر المحيط وأن أنظر للخلف لأرى أي طريق طويل قد قطعت، ولكنني لن أستطيع الراحة إلا لقليل من الوقت فمع الحرية تأتي المسؤولية وعلي ألا أبطيء في قطع ما تبقى من طريق”.
عزيزي د. مزمل … أمام بلادنا طريق طويل لتسيره، خلفها جبال قد عبرتها ومسيرة ممتلئة بتضحيات قدمها خيرة أبنائها وبناتها للخلاص من الشمولية، لا وقت للإبطاء ولا لندب الحظ، هنالك متسع لمعالجة الأخطاء وتصحيحها والمضي قدماً دون الرجوع للوراء .. هذا هو الطريق الذي نأمل أن نسير فيه كتفاً بكتف مع شعبنا الذي سيبلغ غاياته مهما واجهه من صعاب.