الأربعاء 25 مايو 2022 - 21:24

الخوي ــ النهود: محمد أحمد الكباشي
صبيحة الأحد الماضي توجهنا مجموعة من الزملاء الى ولاية غرب كردفان وتحديداً لمحليتي النهود والخوي، وعلى عكس ما هو ماثل الآن اذ يمر عدد من ولايات البلاد بما فيها العاصمة بازمة مياه حادة أرقت مضاجع المواطنين هنا وهناك ومازالت تبارح مكانها، الا ان زيارتنا هذه المرة الى غرب كردفان لنشهد كيف ودعت عشرات القرى او ما يعرف هنا بمثلث العطش أزمة المياه وكيف تحولت أحلام المواطنين كبارهم وصغارهم إلى واقع ملموس؟ وما هي الجهات التي وقفت خلف هذا الإنجاز؟ وغيرها من التساؤلات والمشاهدات التي نجيب عنها بلسان الحال وبأعين شاهدت ووثقت لحظات فرح امتزجت فيها دموع الأهالي بذكريات الماضي البائس وحكايات عن الحصول على المياه تبدو أقرب للخيال وحاضر يحمل الفأل والبشريات بتدفق المياه وانسيابها من منطقة ام البدري الى عيال بخيت. ولما كان الحدث من الأهمية بمكان فقد تقدم حضور الافتتاح وزير المالية الاتحادي ووزير الري وحكومة الولاية وصاحبة الانجاز شركة ويلز وقيادات الإدارة الاهلية وحشد غفير من مواطني القرى المستفيدة تجمعوا في منطقة عيال بخيت.
قمة المعاناة
رداءة الطريق القومي بارا ــ الابيض ومنها الى النهود استهلكت من الرحلة أكثر من تسع ساعات للوصول الى النهود بدلاً من ست ساعات، مما ادى الى مضاعفة معاناة المواطنين ومستخدمي الطريق، وذات المعاناة تبدو اكثر عندما توجهت بنا السيارة الى منطقة ام البدري على الناحية الشمالية الغربية عبر طريق وعر تتخلله تلال من الكثبان الرملية، وهنا تتناثر القرى من القطاطي وقليل من المنازل من المواد الثابتة. ومن المفارقات أنه على الطريق تنتشر قطعان من الماشية والضأن الحمري، فضلاً عن انتشار كثيف لاشجار الهشاب، مما يعني ان المنطقة غنية بمواردها وانتاجيتها العالية من الصمغ العربي ولكنها فقيرة في الخدمات والتنمية.
من الواقع
التمسك بارض الجدود دفع اهالي تلك القرى لعدم مغادرتها والتمسك بها تحت كل الظروف خاصة انعدام المياه، ويتجسد عند هؤلاء هذا الواقع بمقولات شعبية متوارثة، ومن ذلك قولهم: )عندما يريد احدهم حلاقة رأس ابنه فما عليه الا ان يأمره بالجري مسافة ثم يعود اليه، وبالتالي يكون شعره قد تبلل بالعرق عوضاً عن الماء فتسهل حلاقته(، وهناك مثل يقول: )سقية زرزورة ولا وقية مدخورة(، وفي ذلك يقول المواطن حميدة الصادق )70 عاماً( في حديثه لـ )الإنتباهة( ان معاناتهم مع ازمة المياه امتدت لعشرات السنين، واضاف انهم يستخدمون اشجار التبلدي لتخزين مياه الامطار حتى وقت قريب، وان المياه يتم الحصول عليها من منطقة مركب على بعد )50( كيلومتراً واستخدام الابل لنقلها، ويتناوب كل اربعة شباب من حي، على ان يتم توزيعها بواقع ثلاثة جوالين لكل اسرة، وابان سراج انه تم انشاء دونكي في منطقة ام مراحيك قبل ان يتم انشاء محطة مياه ام البدري.
وماذا قال المواطنون؟
باستطلاع عدد من مواطني المنطقة حول مردود الخط الناقل على حياتهم الاقتصادية والاجتماعية، أوضح المواطن أحمد سالم قريب الذي يسكن أم البدري أن الماء عصب الحياة، متوقعاً أن يحدث المشروع استقراراً كبيراً في المنطقة التى كانت تنفق كل عائدات ثرواتها على الماء، كما توقع أن يحدث تغييراً اقتصادياً واجتماعياً كبيراً في المنطقة.
البكاء فرحاً
والصورة تبدو مغايرة لما كان في السابق، وفي الطريق مجموعة من الفتيات يحملن الماء فوق ظهور الحمير وهن قادمات من احد الاحواض القريبة، وسألت احداهن وتدعى الرحمة احمد حمد النيل من منطقة سالم صافي عن جلب الماء، فلم تخف سعادتها وقالت: )الحمد لله كنا في حال واليوم في حال تاني(، واضافت قائلة: )باماكننا العودة الى المورد مرات ومرات في اليوم لوفرة الماء بعد وصول الخط(، والى جوارها تقف مريم التي وجدت صعوبة في التعبير عن فرحتها واكتفت بوضع ثوبها على وجهها وكأنها تبكي فرحاً وليس حزناً.
استقرار الرعاة
يشكل الرعاة في القرى المستفيدة من خط المياه نسبة مقدرة، وهذا ما يؤدي الى استقرارهم والاستفادة من خدمة المياه، اذ ان قطاع الماشية تأثر بصورة كبيرة بازمة المياه خاصة في فصل الصيف، ويقول الشرتاي عبد الرحمن إيدام جودة شرتاية منطقة الجمعانية إن الخط كان حلماً للجميع والمخرج للمنطقة التي عانت لسنوات من العطش، وطالب أصحاب المصلحة من أهل القرى التي يمر بها الخط بالمحافظة على الخط وحمايته من التخريب.
فيما أوضح شرتاية عيال بخيت دوليب النيل دوليب عبد الرحيم أبو دقل، أن المشروع لجميع أهل المنطقة، مطالباً بضرورة حمايته وتأمينه والمحافظة عليه، مؤكداً أن الخط أدخل الفرحة والسرور في نفوس أهل المنطقة. وكذلك خرج أكثر من 90% من سكان مناطق الصخور الأساسية من أزمة العطش. والإدارة الأهلية بقيادة أمير الامارة وحكومة الولاية بقيادة وزير البنى التحتية شمروا عن ساعد الجد وعقدوا النية والعزيمة على تحقيق هذا الإنجاز الكبير، فتعاقدوا مع شركة )ويلز( للاستثمار والخدمات المحدودة بتمويل قدره )11( مليون يورو من البنك الإفريقي، واستطاعوا توصيل الخط من )عيال بخيت ــ أم البدري( بطول )84( كيلومتراً حيث يمر بحوالى )25( قرية.
لا تنمية إلا بوقف الاقتتال
ورغم حرارة الطقس واشعة الشمس الحارقة في ذلك اليوم، الا ان فرحة مواطني منطقة عيال بخيت بوصول خط المياه انستهم كل ذلك، وينتظرون الساعات الطوال لحضور وفد المركز بعد وصوله عبر مروحيتين، ومنهما مباشرةً توجه الوفد الى افتتاح الخط قبل ان يعود الى موقع الاحتفال، حيث رهن وزير المالية جبريل ابراهيم استمرار التنمية وتقديم الخدمات لمواطني ولاية غرب كردفان بوقف كافة أشكال الاعتداءات القبلية ونبذ الاقتتال وتوفير الامن، وقال لدى مخاطبته افتتاح الخط الناقل للمياه إن الحكومة تولي توفير المياه للمواطنين أولوية قصوى، والتزم باكمال الخط الثاني للقضاء على العطش الذي يقع في مناطق عيال بخيت والخوي والنهود )مثلث العطش( الذي تعاني منه المنطقة، ووافق على بناء حوض مائي بمنطقة عيال بخيت، واصفاً ما تم تنفيذه بالملحمة، داعياً للحفاظ عليه، وقال انه يحتاج الى تضافر الجهود من المواطنين والولاية خاصة المواطنين اصحاب المصلحة الحقيقيين، وامتدح جهود )شركة ويلز( وكافة الجهات التي اسهمت في انجاز المشروع، وقال: )اننا لن نقدم وعوداً(، مؤكداً اهتمام الدولة بالتعليم والصحة، وقال: )سوف يتم التنسيق مع الوالي لدعم التعليم والصحة بالولاية، ومن غير التعليم لن نسير الى الامام(، وتعهد لاهالي منطقة عيال بخيت بتحويل المركز الصحي الى مستشفى كبير حتى ينعم المواطنون بالخدمات الصحية، وقال: )كل سوداني يجب ان يتمتع بعلاج مجاني عبر بطاقة التأمين الصحي(، ووجه جبريل الشركة المنفذة لاكمال بقية المشروع.
تمزيق فاتورة
ومن جانبه اعتبر والي الولاية خالد محمد احمد جيلي انهاء العمل في الخط الناقل للمياه نهاية لمعاناة المواطنين والقضاء على العطش والنزوح وتحقيق التنمية، مشيراً للميزات الاقتصادية التي تميز المنطقة. وطالب الوالي الحكومة الاتحادية بصيانة الطريق القومي واكمال الطرق التي تربط الولاية، واكمال شبكات الكهرباء والمياه وإدخال الطاقة الشمسية، فيما وصف المدير التنفيذي لمحلية الخوي محمدين ابو الحسن عثمان افتتاح الخط بالحلم الذي اصبح واقعاً، غير أنه شكا من حالة عطش تمر بها المنطقة الشرقية بالمحلية، واشار ابو الحسن الى حاجة المحلية الى مزيد من الخدمات خاصة في مجال الصحة والتعليم.
قبول التحدي
ولم تكف هتافات المواطنين تعبيراً عن فرحتهم بتوصيل المياه وطي حقبة من المعاناة، وهذا ما دفع المدير التنفيذي لشركة ويلز لوصف ما تم بمشروع القرن، مبيناً ان الشركة قبلت التحدي لتنفيذ المشروع الذي قال انه تم بايدٍ سودانية رغم الظروف الطبيعية والصحية والسياسية التي مرت بها البلاد، مؤكداً ان هذه الاسباب شجعتهم على قبول التحدي استشعاراً بمعاناة المواطنين، وقال ان التحدي امامهم هو استمرارية تشغيل الخط عند حدوث اي عطل، كاشفاً عن تمويل جديد بمبلغ )30( مليون دولار، داعياً المواطنين للمحافظة على الخط وحمايته بطول )70( كيلومتراً حيث يمر بحوالى )40( قرية.
رغم المتاريس
ومن جانبه أوضح منسق المشروع المهندس عجبنا أحمد هارون أن العمل بدأ في المشروع في منتصف يوليو 2018م، وحسب العقد كان يجب أن ينتهي خلال )13( شهراً، ولكن التغيير السياسي الذي شهدته البلاد وجائحة )كورونا( آخر العمل كثيراً ليفتتح أواخر الشهر الجاري، وكشف عجبنا أن الخط يحتوي على )5( آبار تعمل بالطاقة الشمسية والديزل مربوطة بحوض تجميع بسعة )3100( متر مكعب، وبه طلمبتان طاردتان لضخ المياه في الخط الرئيس، ومزود بشاشات للتحكم في نظام التشغيل وكفاءة الضخ، وتتخلله )13( محطة للسقية تحتوي كل منها على غرفة تحكم وصهريج مياه، وتم فيها فصل شرب الإنسان عن شرب الحيوان، وكذلك فصل عربات )التانكر( عن )الكارو(، وبه غرفتان إحداهما للحارس والأخرى مكتب للمتحصل، ومشتل مزود بانظمة ري حديثة.
حول خط المياه
وأوضح عجبنا أن الـ )24( كيلومتراً الأولى من الخط تم تصميمها بمواسير)12( بوصة، فيما تم تصميم الـ )24( كيلومتراً الثانية بمواسير)10( بوصات والـ )17( كيلومتراً الاخيرة صممت بمواسير)8( بوصات، وذلك حسب المتطلبات الفنية لانسياب الماء.
وكشف هارون عن استمرار العمل في خط رديف بطول )70( كيلومتراً يبدأ من منطقة جبل حيدوب، وبه أيضا )5( آبار تعمل بمولدات كهرباء وكهرباء عامة مربوطة بحوض تجميع بنفس السعة التخزينية للخط الشمالي، ويتفرع عند منطقة كنجارة إلى خطين الأول في الاتجاه الشمالي الغربي وينتهي في قرية جبارة، والثاني يتفرع في الاتجاه الجنوبي الغربي وينتهي عند منطقة أبو ريدة، وتوجد به )12( محطة بنفس مواصفات محطات الخط الشمالي. وأكد المنسق أن المشروع تستفيد منه حوالى )173( قرية و )200( ألف نسمة وحوالى )730( ألف رأس من الماشية.
مسؤولية مجتمعية
عدد من الذين استطلعتهم )الانتباهة( اكدوا ان كثيراً من المواطنين نزحوا الى قرى تتوفر بها المياه، الى جانب آخرين ذهبوا بحثاً عن العمل، فيما أوضح مسؤول المجتمعات بالمشروع أحمد بشرى علي حميدان أن المشروع قام في ظروف قاسية، وقدم خدمات جليلة لسكان المنطقة التي ظلت تعاني لأكثر من مائة عام من العطش، مبيناً الدور المجتمعي الذي قدمه المشروع للمجتمعات المحلية في إطار المسؤولية المجتمعية وتمثل في توزيع حوالى )6500( رأس من الضأن التي بدأت بتمليك )245( أسرة من سكان القرى التي تقع على الخط كمال دوار بواقع )70( رأساً لكل قرية، كاشفا أن العدد وصل الآن إلى )405( أسر، وأن إجمالي الأسر التي استفادت وصل إلى )650( أسرة، وأن هدفهم الوصول إلى )700( أسرة بنهاية المشروع.
الأوضاع المعيشية
وقال بشرى إن المشروع عمل على تدريب الشباب من الجنسين على الاستخدام الأمثل للموارد المحلية من أجل زيادة الدخل وتحسين الأوضاع المعيشية لدى سكان الريف، من خلال الاستفادة من المواد المحلية المتمثلة في التبلدي والعرديب والقضيم والصمغ واللالوب، وذلك من خلال التدريب على التصنيع الغذائي في مجال الحلويات والعصائر البلدية والأجبان والأعمال اليدوية، إلى جانب تدريبهم على ثقافة المشاتل والتثقيف الصحي.
أخيراً:
بوصول الخط الناقل للمياه الى قرى عيال بخيت الى جانب انه يحدث استقراراً بالمنطقة، فإنه يتجاوز ذلك الى التفكير في ممارسة النشاط الزراعي خاصة الخضر والفواكه، وهذا ما اكده اعيان المنطقة وتطمينات مدير عام وزارة البنى التحتية والتنمية العمرانية بالولاية، والمضي قدماً في محاربة العطش في كافة ارجاء الولاية.