الخميس 2 يونيو 2022 - 18:59
كرستيان ترول Christian Troll
تقديم وترجمة حامد فضل الله/ برلين
عطفا على تقديمي لكتاب الدكتور فتح الرحمن التوم الحسن بعنوان ” كولونيالية الاِسلام السياسي، أزمة الوطن والوطنية والمُواطنة في خطاب الاِخوان، السودان نموذجاً”، أعيد نشر المادة ألتي نُشرت من قبل في مجلة “المستقبل العربي2 ” ــ بيروت، لبنان، من أجل تعميق الحوار.
تعرفت على البروفيسور كرستيان ترول منذ فترة طويلة، وهو من مواليد برلين، عمل أستاذاً في كلية الفلسفة واللاهوت في فرانكفورت، وفي المؤسسات الاِسلامية التابعة للمعهد البابوي بروما سابقاً، وكان عضو في اللجنة التمهيدية التي حضرتْ للاِجتماع الأول للمؤتمر الاِسلامي الأول، الذي دعا له وزير الداخلية فولفجان جشويبله.
عقدت مؤسسة فريدرش ايبرت الألمانية منذ فترة منصرمة في برلين سلسلة من الندوات بعنوان” الفكر التقدمي في الاِسلام المعاصر”، استمرت حوالى 5 سنوات وشارك فيها من السودان نذكر منهم: عبدالله النعيم، عطا البطحاني، الحاج وراق، عائشة الكارب، عفاف أحمد عبد الرحمن محمد، طه إبراهيم. وشاركت في الندوة الختامية مجموعة من الشباب وطلاب من جامعة الخرطوم. وكان ترول يشرف على المجموعة السودانية. نقدم هنا ملخصاً للبحث الهام الذي قدمه في إحدى الندوات بعنوان: “الفكر التقدمي في الاِسلام المعاصر: نظرة نقدية”.
أولاً : خلفية تمهيدية: التجديد الإسلامي
في البداية من المفيد أن نتبين الخلفية ونحدد الإطار الذي نريد من خلاله تقديم الفكر التقدمي في الإسلام المعاصر. إن الحركات والاتجاهات التي تشغل العالم الإسلامي المعاصر يمكن تحليلها في المساحة المتوترة بين مفهومي الأصالة والحداثة. إن مثل هذا المدخل يضع في اعتباره الإسلام المعاصر في المساحة المتوترة بين الأصالة فيما يتعلق بأمور الحياة والفقه الديني النابعة من الماضي، والحداثة التي تحيل إلى الحاضر و”المستقبل” الذي لم يعد يجد المسلمون أنفسهم فيه كمحرك قوة ولذلك ليس بمقدورهم التحكم في تطور الفكر.
1ــ القرآن: أزلي وغير قابل للتغيير
القرآن الكتاب المنزل من عند الله يعتبر جوهر العقيدة الإسلامية. وهذا الكتاب يعتبر كتاباً أزلياً وغير قابل للتغيير من حيث الشكل و المضمون. ويعتقد المؤمنون به أنه يصلح لكل مكان وزمان وأنه يحوي بين دفتيه الحقيقة الأزلية. وفي المقابل تتسم فكرة الحداثة بالنسبية فيما يتعلق بالحقيقة وبعامل تطورها المستمر. فبالنسبة للحداثة لا يوجد أي شيء سواء كان مكتوباً أو منطوقاً لا يحق ولا يمكن للإنسان إعادة صياغته وتطويره أو التشكيك في صحته. وهكذا يجد الإسلام نفسه بين طرفي الرحى: رحى الحقيقة الأزلية الثابتة الموجودة بين دفة القرآن من ناحية، ومن ناحية أخرى رحى الحداثة التي ترى أن جميع الأمور قابلة لإعادة الصياغة والتطور الدائم. وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: هل يوجد الحل في تحديث الإسلام أم في أسلمة الحداثة؟ ومن واجب المسلمين تقديم الإجابة عليه.
2 ــ الإسلام الأصولي )الاِسلاموي( والاِسلام القائم على التأويل الجديد )الإسلام طبقاً لروح النص(:
هناك ثلاثة اتجاهات تنتشر في العالم الإسلامي. فعلى خلفية الإسلام الثقافي يوجد إسلام متزمت، بمعنى إسلام قائم على التفسير الحرفي للنص. وبخلاف ذلك يوجد ــ إسلام ينبع من التأويل الجديد له ــ وهو الإسلام الذي يعتمد على تفسير روح النص لا حرفيته. والإسلام الثقافي ــ ويمكن هنا استخدام مصطلح الإسلام التقليدي ولا أحبذ هنا استخدام مصطلح الإسلام الشعبي ــ يعني الإسلام الذي يتم الاعتقاد بمبادئه وممارسة شعائره في مجتمع معين.
“فالإسلام الثقافي”. وهو وثيق الارتباط بالحضارة التي ينتمي إليها. وهو يُكون بذلك المجتمع الإسلامي ويساهم بقدر كبير في تشكيل شخصية الفرد المسلم وتحقيق توازنه النفسي وانسجامه مع محيطه، أي انه يمثل بالنسبة لكل مسلم المرجعية التي يعود إليها فيما يتعلق بالقيم والسلوك وبعبارة واحدة الثقافة الحقيقية للمجتمع الإسلامي. وطبقاً لمرجعية هذا الإسلام الثقافي بزغ ما نسميه “الإسلام القائم على التفسير الحرفي “للنص” وهو ما يطلق عليه الآن أيضاً “الإسلاموية” ولكن أشكاله المتعددة تعود إلى زمن سحيق.
3 ــ العلاقة الداخلية بين الإسلاموية والإسلام:
يتحول هذا الإسلام إلى أنظمة شرعية وحركات منتظمة وذلك عندما يجد نفسه مضطراً إلى الدفاع عن نفسه ضد قوى غير إسلامية. ولذلك فهو لا يخلو من اتجاهات متطرفة. إن الأسباب التي تفسر عودة الإسلاموية إلى الظهور حالياً متعددة. وفي مقدمة هذه الأسباب بدون شك سيطرة قوة ما يسمى “بالغرب” وضعف الوضع السياسي والاقتصادي وانكسار أمة الإسلام أمامه. وهنا يقع يبدو أمامنا مباشرةً مشهد أزمة اقتصادية وسياسية وثقافية، أي بعبارة واحدة أزمة تطور.
هل يمكن شرح المنطق الذي يكمن وراء التفسير الحرفي الراديكالي للنصوص المقدسة بصورة أكثر دقة؟ الله هو الرب والخالق الذي يجب أن يسجد له الجميع. وقد بعث إلينا بكتابه الذي فرض علينا اتباعه.
إن القرآن والسنة الصحيحة ــ الأفعال والكلمات التي نقلت عن النبي محمد ويقتدى بها هي نصوص أساسية وتأسيسية ــ وهي المرجع الأساسي للمسلم الذي ينبغي على أن يطبقه بحذافيره من دون الخروج عليه قيد أنملة. إن الدين يحتوي على إطار للسلوك لا ينبغي الخروج عليه مطلقاً. إن أمة الإسلام مطالبة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )كما ورد في القرآن، سورة 3/104(.
وطبقاً لهذا الأمر، فالمسلمون مطالبون في كل مجالات الحياة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. على أن المعروف والمنكر يتوقف تحديدهما على القرآن والسنة وعلى هذا الأساس يتم الاستنباط العقلاني للشريعة وهذا يعني وجود رابطة داخلية بين الأصولية الإسلامية والإسلام وبالرغم من أنهما ليسا متطابقين ويجب التفريق الواضح بينهما، فالإسلام الأصولي على أي حال في نظر البعض وربما الكثير من المسلمين هو إسلام الاعتدال ولا يقود إلى الضلال وهو اقرب إلى الإسلام الشامل والكامل. فالإسلاموية بالنسبة لاتباعها ليس الإسلام المبطن )الباطن( وإنما الإسلام الصحيح الذي ينبغي على الجميع اتباعه.
4 ــ إسلام التأويل الجديد
في الوقت نفسه نشاهد هذه الأيام بزوغ إسلام يقوم على تفسير جديد نابع من الإسلام الثقافي أو كرد فعل للتجارب القاسية التي نجمت عن الإسلام الأيدليوجي الأصولي المعاصر ونحن نطلق عليه تسمية “إسلام التأويل الجديد” لأنه يحاول فتح باب الاجتهاد مرة أخرى )بمعنى السعي الشخصي إلى إيجاد أفكار تفسيرية جديدة للنصوص المقدسة الأساسية(.
وأهمية هذا الاجتهاد تكمن في شجاعة البعض على إعادة التفكير في الأحكام الفقهية والشرعية القديمة وصياغتها من جديد. وهذه المحاولات الجديدة تتميز أهميتها بمعالجاتها للنصوص التأسيسية للإسلام وبمحاولة إيجاد تفسير جديد ليس طبقاً لحرفية النص. ولكن هذا التفسير طبقاً لروح النص يمكن أن يحمل في طياته بذور الأمل في مستقبل أفضل، حيث أنه يواجه بمرونة تحديات الحداثة بدون إنكار بعض الأحكام الإسلامية التي توصل إليها القدماء.
لا شك في وجود ظاهرة الفكر الإسلامي الجديد الآن. ولكن السؤال هو أين الجديد فيها؟ الجديد هو النمط من الفكر الإسلامي المعاصر لدى البعض الذي يرى ضرورة إخضاع الأحكام التي نصفها بالإسلامية للتدقيق في ضوء التحولات المستجدة على أرض الواقع. ولذلك يطالب بضرورة نقد الذات بصفة دائمة. إنه يطالب بإعادة صياغة أحكام الماضي )وليس بإلغائها أو القضاء عليها نهائياً( وضرورة إتاحة الفرصة أمام كل مسلم وكل إنسان صادق للتوصل إلى حقيقة الرسالة الإسلامية عن طريق المعرفة العميقة لخلفيات النصوص بدون التعرض للتشويه الأيدليوجي المتعمد.
وعلى ذلك ينظر المفكرون المعاصرون “إلى الحداثة” بطريقة أخرى عن نظرة الإصلاحيين السابقين )من نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين( ويختلفون معهم اختلافاً جوهرياً، فهم لا يكتفون باستخدام الفكر كمعيار شامل وبديهي فحسب، وإنما ينظرون إليه على أنه مكون اجتماعي يوجد داخل الممارسات العديدة والخطابات النظرية المختلفة. واتخاذ موقف نقدي من الحداثة وضرورة تعميق شعور المفكر بالمسؤولية الذاتية عند ممارسة حريته الكاملة في التفكير.
إن النقد العلمي العلني “للظاهرة الدينية وللخطاب الديني” هو أمر جديد بالنسبة للمجتمعات الإسلامية. ولذلك يتم وصم دعاة الفكر الجديد دائماً بالمرتدين. فهم ومفاهيمهم لا تروق للمؤسسة السياسية الحاكمة لأنهم، إضافة إلى بحث المسائل الدينية يتطرقون إلى الخوض في المشاكل الحالية والتي هي وثيقة الصلة بقضية العلاقة بين الدين والدولة وأيضاً بين الشريعة والقانون )وخاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان وتحرير المرأة(.
وكذلك الأمر بالنسبة للقضايا الاجتماعية مثل الرؤية الإسلامية للعلاقة بين الدين والعدالة الاجتماعية أو مسألة ما إذا كان الدين الإسلامي يحمل في طياته نظامه الاجتماعي والسياسي الخاص به. ومن الخطأ الجسيم أن يقوم أعداء هذا التيار الفكري الجديد باتهام أصحاب هذا التيار بأنهم ارتموا في أحضان الفكر الغربي وقبلوا القيم الفكرية الغربية بدون نقد أو تمحيص. وفي الحقيقة فالتحديث بالنسبة لأصحاب هذا التيار لا يعني أبداً الحداثة الغربية.
إن التحديث يعني عندهم الضوء الذي نتج عن المعلومات الحديثة والتي يتمكن الباحث من خلاله على ممارسة النقد الموضوعي. ولذلك يؤيد أصحاب تيار التفكير الحر عند دراستهم وتفسيرهم للنصوص استخدام أدوات المعرفة الحديثة التي تشملها العلوم الاجتماعية الحديثة )مثل علم اللغويات والسيميوطيقا، علم العلامات، وعلم دراسات الأديان المقارنة وعلم الاجتماع(. إن أصحاب الفكر التقدمي لا يكونون مدرسة فكرية ولا تشغلهم جمعياً نفس القضايا.
ونذكر هنا من أصحاب ذلك التيار على سبيل المثال: محمد أركون )فرنسا/ الجزائر(، ليلة بابيس )الجزائر/ فرنسا( عبد الكريم سوروش )إيران(، نصر حامد أبو زيد )مصر/ هولندا(، عبده الفيلالي الأنصاري )المغرب(، عبد المجيد شرفى )تونس(، فريد أسحق )جنوب أفريقيا/ الولايات المتحدة الأمريكية(، إبراهيم موسى )الولايات المتحدة الأمريكية(، أصغر على أنجنيير )الهند(، عبد الله النعيم )السودان/ الولايات المتحدة الأمريكية(، أمينة ودود )الولايات المتحدة الأمريكية(، فاطمة المرنيسي )المغرب(، خالد أبو الفضل )الولايات المتحدة الأمريكية(، نورشوليش مجيد )إندونيسيا(، فارش نور )ماليزيا(، عمر أوزوسوى )تركيا(….الخ.
وكما هو الحال بالنسبة للإسلاميين الأصوليين يمكن النظر إلى دعاة الفكر التقدمي إلى حد ما كنتاج لعملية الديمقراطية والدراسة الجامعية. وبعض هؤلاء المفكرين أساتذة متخصصون في العلوم الدينية، ولكن الغالبية ليست كذلك. ويمكن القول أن معظمهم درس العلوم الإنسانية، أما معظم الأصوليين فقد درسوا التكنولوجيا والعلوم الطبيعية. إن المفكرين التقدميين على قناعة بأنه لا يمكن الاكتفاء بتحديث المجتمعات الإسلامية في مجال العلوم الطبيعية والتقنية وفي الوقت نفسه عدم المساس بالنص المدون )المعتمد( )بالألمانية Korpus( للتفسيرات الدينية التقليدية.
انشغل العالم الاِسلامي في السنوات الخمسين الماضية بمعارك التحرر من الاستعمار الغربي وبعدها ببرامج إعادة البناء. وصحيح أيضاً بلا شك أنه عندما يكون الناس تحت ضغط غير عادي ويواجهون تحديات هائلة يصل إبداعهم إلى أبعاد غير مألوفة. ولكن كيف تكون إعادة البناء؟ عندما لا يلعب البناء الفكري والتجديد العقلاني إلا دوراً ضئيلاً أو حتى لا دور إطلاقاً. إن التحديات الجديدة وتسارع الدعوة للعلمانية والتي وصلت إلى درجة عالية في أوساط ومجتمعات ودول إسلامية دفعت برفع وتيرة الفكر التقدمي في كل مكان وبعض هذه الدول الإسلامية كانت قد عاشت تجربة )مثل حكم الملالي في إيران وطالبان في أفغانستان( وكما أن تجربة المعارك مع الحركات الإسلاموية ضد أنظمتهم الدكتاتورية والدفاع عنها لعب دوراً في تكريس الحالة الراهنة.
في الواقع يهتم كل المفكرين التقدميين بإعادة النظر في المكانة التي يجب أن يحتلها الدين مع التنامي المتزايد على الدوام لعلمنة العالم.
وطبقاً لدعاة التفكير التقدمي لا يمكن التصدي لمتطلبات الحداثة والوصول إلى القيم الإنسانية للعقيدة الإسلامية بدون القيام بعملية تفسير جديد موضوعي ومحايد للنصوص المقدسة. وهذا من شأنه أن يفضي إلى مواكبة التفسيرات للقضايا الإنسانية المطروحة، مثل حقوق الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة وسوف يتم ذلك بضمير مستريح إزاء القرآن والسنة وجدل مع الفكر النقدي للحداثة.
2 ــ بعض أفكار وحجج الفكر الجديد
يتعرض الباحث هنا إلى بعض أفراد تيار التفكير الإسلامي الجديد. فقد عالج أفكار أحمد كرا مصطفى Ahmet Kara mustafaفي مقالته “الإسلام: مشروع حضاري في حالة تقدم” السؤال الأساسي الذي يشغل دائماً. ويمكن إيجاز إجابته الخطيرة العواقب كالآتي: إن مفهوم “الدين” بسبب عدم وضوحه وغموضه يمكن بالكاد تطبيقه عموماً على الإسلام والكاتب يوحي بصورة مضللة بأن الإسلام هو حقيقة واضحة محددة وأيضاً لا يمكن تطابق الإسلام مع الثقافات الإنسانية المختلفة وكذلك الثقافات المختلفة التي تعرف نفسها بأنها إسلامية لا يمكن تصنيفها هرمياً تراتبياً على أساس القرب أو البعد من إسلام متصور.
ولا يبقى سوى التعريف الشائع للإسلام بالممارسات المفروضة والتي نعرفها من خلال الأركان الخمسة.
والذي لا يعترف بالشهادة لا يعتبر في الواقع مسلماً وهذا التعريف للإسلام من الشهادة له قيمة فقط هنا عندما يوضع باعتباره إطاراً حضارياً وبكلمات أخرى حتى نصل إلى الصيغة الإيجابية لنظرية كرا مصطفى: بالتأكيد يمتلك الإسلام في محوره بعض ممارسات وأفكار أساسية ولكن الأهم أدراك الروح الديناميكية التي تجعل المسلمين دائماً في ظروف تاريخية محددة يجمعون على هذه الممارسات وبؤرة
من هذا المنظور تنشأ حسب كرا مصطفى نتائج منها: إذا فهم الإسلام كمشروع حضاري يتجلى كظاهرة ديناميكية تتطور من داخله والتي لا يمكن بأي أسلوب تحديدها أو تجسيدها. وهذه الحقيقة أي الظاهرة التي يطغى عليها النداء الإسلاموي غير الواقعي والوهمي لتأسيس الإسلام الحقيقي أو لاتحاد سياسي أيد لوجي لكل المسلمين، يجب الاحتفاء بها.
إن الرؤية التي عرضت هنا عن الإسلام، تظهر الإسلام أنه حقيقي عالمي متطور وهو بوصفه تراثاً لا يحتاج أن يبتعد عن أي جنس أو لغة أو ثقافة. أو بقول أخر تتيح لنا هذه الرؤية تقدير واحترام الأبعاد المتعدية للثقافات والإثنيات والقوميات أو باختصار الأبعاد الإنسية )الإنسانية( للإسلام. وبجانب ذلك ينظر للإسلام كتراث متفاعل ومتداخل، فهو يضرب جذوره في الثقافات التي يتصل بها، فيشكلها ويصلحها، ولذا توجد ثقافات إسلامية أخرى أيضاً على الكرة الأرضية وكلها شريكة متساوية في بناء وتجديد التراث الإسلامي الحضاري.
يشير إبراهيم موسى وهو وأحد من أهم أصحاب التيار التقدمي للفكر الإسلامي إلى الملامح الرئيسية للفكر التقدمي ويقارن بينه وبين فكر الحداثيين المسلمين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، الذين اعتبروا الحداثة حليفتهم وأعطوا العقلانية بصورة خاصة قيمة عالية، ومثلَ العقل لهم أهم معيار كسلاح قاطع في معركتهم مع الغرب، واستخدموه أيضاً في مكافحة الخرافات والعادات الشعبية المتدنية وكذلك توسموا من المعيار العقلاني التحرر من أية مرجعيات دينية خارجية، سواء كانت صوفية أو لاهوتية أو تعاليم شريعة، بالإضافة إلى ذلك اعتقدوا بإمكانية توصلهم مباشرة بواسطة الطرق العقلانية إلى الرسالة الأصلية للقرآن.
ولكن لم يدرك هؤلاء المفكرون الوضوح النقدي للمعرفة الحديثة الذي أنجزته العلوم الإنسانية الحديثة. وبالكاد وجد بينهم علماء كانوا على إدراك واستعداد ومقدرة لتطبيق علم التاريخ النقدي وعلم الأدب النقدي وعلم الاجتماع وعلم النفس لتأويل القرآن والسنة على التاريخ والأنساق الاجتماعية وعلى فهم اللاهوت وعلم القانون.
لقد راودهم الخوف المشروع بأن القبول التام بالحداثة باعتبارها تقليداً فلسفياً ربما يؤدي إلى تفتيت الإسلام بوصفه عقيدة، كما عاشوا على قناعة بأن علم المعرفة ما قبل الحداثة المتأصلة في علم الكلام وعلم الفقه يستطيع أن يقاوم تدمير الحداثة أو بالأحرى يمكن أن يتوافق بصورة أفضل حتى مع علم المعرفة الحديثة.
إلا إن هذا التحايل، بالرغم من حسن النية، يتسم بالسذاجة، إذ أن غالبية هؤلاء المصلحين اعتبروا الحداثة وموروثها الفلسفي مجرد أداة لتشجيع وشرح تقاليد ومعرفة ما قبل الحداثة للدين. وهذا يوضح بأنهم لم يعرفوا أو تجاهلوا الحداثة في مداها الشامل.
لقد قدم خالد أبو الفضل دراسة نقدية للأسس الأخلاقية للنظام القانوني في الإسلام. وكما يقول اليوم فان هذا النظام القانوني للإسلام الذي قام على التفسير السلطوي للقرآن والحديث، أسفر عن عواقب وخيمة لقطاعات في المجتمع الإسلامي وخاصة بالنسبة للنساء. ويخشى أبو الفضل بأن هذه السلطوية للقانون الإسلامي أضاعت عملياً ليس فقط أي اندماج واحترام فحسب بل أيضاً التطبيق والديناميكية للقانون الإسلامي في العالم المعاصر. وبجانب التبرير للفاعلين النشطاء والدغمائية المشلولة )التعصب العقلي( لخبراء القانون الإسلامي المعاصر لم يبقٍ الآن سواء القليل من التراث الثمين والشامل للقانون الإسلامي. فإذا كان هذا يمثل أساس المنهج الذي يعكس حياة دينية تلتمس الإلهي وكمشروع يدبر ويوازن جوهر قيم الشريعة والتطلع إلى حياة أخلاقية، إذاً يجب الإقرار حسب قول “أبو الفضل” بأن الشريعة قد انهارت بل اختفت عبر القرون الثلاثة الأخيرة وخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين.
وبالنظر إلى آثار الأحكام الإسلامية المتعلقة بالنساء يصل أبو الفضل إلى نتيجة قاتلة وهو يُقيم أقواله النقدية ــ من بين .. وكمثال ــ الأحكام التي تصدرها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء )C.R.L.O.( التابعة للمملكة العربية السعودية والمنوط بها تقديم الفتاوى الإسلامية ولها سلطانها القوي في نشر الفكر السلفي والفكر الوهابي )Salafabismus( في جميع أرجاء العالم. ومن هذه الفتاوى على سبيل المثال: تحريم زيارة المرأة لقبر زوجها وتحريم صلاتها بصوت مرتفع وتحريم قيادتها للسيارة وتحريم سفرها من دون محرم، بدعوى أن مثل هذه الأفعال تمثل بالضرورة إغراء غير محتمل للرجال وهذه الأمور تمثل لأبي الفضل إشكالية أخلاقية ويتساءل بلهجة خافتة: إذا كان الرجل بمثل هذا الضعف، فلماذا تدفع المرأة الثمن؟
ولأن النظام القانوني لا يعمل في فراغ أخلاقي، يجب على المسلمين طبقاً لأبي الفضل أن يفكروا بجدية في ذلك ويحددوا التصورات الأخلاقية للقانون الإسلامي الذي ينبغي الاسترشاد بها في زمننا هذا.
ما هو الأمر أو ماذا يتمخض عن مثل هذا النوع من الأحكام القانونية؟ وعندما يقال بأن مثل هذه الأحكام ليس لها أي علاقة بالدين وإنما هي نتاج يُمثل تماماً البطريركية الثقافية الاجتماعية للفضاءات المحيطة، وهذا يمكن الاتفاق عليه فقط، ولكن بمعنى أخر وبحدة غير متوقعه يضيف أبو الفضل: “أنه ليس من الأمانة الادعاء بأن هذه الأحكام لا يوجد لها سند في المصادر الإسلامية وكما وضحت هذه الدراسة فهناك سند لها في عدة سوابق وعادات. ولكن يمكن للمرء أن يبرهن بأسس موضوعية بأن هذه الأحكام لا تتفق مع الأخلاق الإسلامية”.
إذا كان الإسلام رسالة كونية كما يحاجج أبو الفضل، فإذاً يجب أن يكون خطابه عن أسئلة الأخلاق والعدالة ذا بصيرة وعقلانية خارج الحدود الضيقة لثقافة قانونية خاصة في  محدد. وأبو الفضل لا يمثل فكرة وضع قانون كوني عام ولا إلغاء أي خصوصية ثقافية ولكن من ينادي بالعمل في خدمة الله لابُد أن ينادي بالعمل في خدمة العدالة، ومن ينادي بخدمة العدالة لابُد من أن يعمل على تحقيق قيم العدل والأخلاق والقيم الإنسانية.
إن المفكر السوداني المُؤثر والمقيم حالياً في الولايات المتحدة عبد الله أحمد النعيم يشعر بوصفه مسلماً بأنه عاجز عن قبول قانون الردة بوصفه جانباً من قانون الإسلام اليوم. لو اعتبر الرأي الشائع عن الردة سليماً اليوم، لجاز إعدام المسلم في دولة إسلامية معينة لتعبيره عن آراء ترى الغالبية العظمى من سكانها إنها ترقى إلى مستوى الردة.
وعلى سبيل المثال، فأنه من بعض المنظورات السُنية، تشكل أراء كثيرين من مسلمي الشيعة ردة عن الإسلام، في حين تشكل آراء الكثيرين من مسلمي السُنة من بعض المنظورات الشيعية ردة عنه. ولو طبق اليوم قانون الشريعة الخاص بالردة لجاز الحكم بإعدام بعض مسلمي الشيعة في دولة سُنية والعكس أيضاً.
ولا مبالغة في ذلك مطلقاً، فالنظرة الفاحصة للتاريخ وحتى زمننا هذا تثبت ذلك. ويضيف النعيم ما دام قانون الشريعة العام يعتبر في الواقع الشكل الإسلامي الوحيد الساري للقانون الإسلامي، فأن معظم المسلمين سيجدون صعوبة بالغة في الاعتراض جهراً على أي من مبادئه وقواعده، أو مقاومة دلالاتها العملية، مهما بدأت لهم هذه المبادئ والقواعد شائنة وغير مناسبة.
إن الشريعة “صيغت” من فقهاء مسلمين خلال القرون الثلاثة الأولى لظهور الإسلام، ورغم أن الشريعة مشتقاه من المصادر الإلهية الأساسية للإسلام، القرآن والسنة، فهي ليست إلهية، حيث أنها نتاج تفسير بشري لهذه المصادر.
وعلاوة على ذلك فقد تمت هذه العملية طبقاً لتفسير بشري في سياق تاريخي معين، يختلف جذرياً عن السياق الذي نعيشه حالياً. لذلك فإنه بوسع المسلمين المعاصرين الاضطلاع بمهمة مماثلة من تفسير وتطبيق القرآن والسنة في السياق التاريخي الراهن حتى يخرجوا بقانون إسلامي بديل، يناسبهم تطبيقه اليوم. ويكتب النعيم: “إن قناعتي كمسلم بأن القانون العام في الشريعة لا يمثل قانون الإسلام الذي يطالب المعاصرون بتطبيقه على أساس أن هذا التطبيق التزام ديني.
يذكرنا دائماً المفكرون التقدميون للإسلام المعاصر أو “المفكرون الجدد”، بأن القرآن كتاب مفتوح للمسلمين وغير المسلمين جميعاً. فالقرآن يخاطب جميع الناس، فقراءته والاستماع إليه يمثل التحدي للاهتداء القويم للإيمان )الصِّرَاطَ المُستَقِيم( وبجانب ذلك فأن القرآن كما يؤكد محمد أركون، والذي ينادي به اليوم “الملايين من المؤمنين لتأمين شرعية سلوكهم ولتدعيم كفاحهم، تقوية قناعاتهم الإيمانية والاتفاق على الهُوية المشتركة في مواجهة القوى المتحدة للحضارة الصناعية”.
بهذا المعنى يحتاج جزء كبير من عالمنا إلى فهم صحيح للقرآن، فالقران يبقى واحداً من الكتب التي تغني الذاكرة وعالم الخيال )المخيال( للبشرية. إن المفكرين المعاصرين يتلقون الآن بوعي الأسئلة المتعلقة بالقرآن التي نتجت من وجهات النظر المعاصرة والخطابات العلمية، ويتساءل بعضهم كيف يستطيع المرء الحصول على مداخل أو استشهاد بنص معين معقد، نص يختلف في مشاعره وتصوره للعالم، اختلافاً جذرياً عن بعض تصوراتنا؟ ويجيبون على هذا التحدي باستخدام المنهج التاريخي النقدي والذي يهدف إلى تخطي الفترة الزمنية التي تباعد بين القارئ والمستمع الحالي وبين النص من القرن السابع.
إن المنهج التاريخي النقدي يحاول وضع النص في سياق تكوَّنه. ويرى أن القرآن هو جزء من التاريخ، فالقرآن كلام الله ولكنه موصوم بالتاريخية. إن تاريخيته كما عبر بن زين “متجسدة” في تلاصق النص )طبيعته وتركيبه(. هذا النص المتلاصق يأخذ شكل خطاب مترابط شبكي كثيف )maillage( )والذي يتألف من كلمات وأقوال وتنبؤات وعلى نحو ما نزل وعلى لسان النبي(، ثم صار مخطوطاً وأخيراً كتاباً.
ومعنى ذلك أن الله وضع كلمته في قالب لغوي بشري وضمن ثقافة معينة، وجمع الناس كلام الله ثم وضعوه بين دفتي كتاب: فالمصحف كما هو معروف يمثل مجهوداً جماعياً. وطبقاً لهذا التصور الجديد، فالقرآن يتحدث عن حقائق أزلية ولكنه ينقلها لنا في صورة ثقافة معينة لا كونية وهي ثقافة عرب الحجاز في القرن السابع والثامن.
هناك آخرون يريدون أن يعرفوا كيف يتكلم النص ويؤدي وظيفته؟ فهذا الخطاب الإلهي في “لغة بشرية” يعرض كمدونة كلية تحتوي على كلمات وجمل منسوجة بشكل بليغ ومرتبطة مع بعضها البعض، ولذلك فالقرآن يمثل في هذا الإطار تحفة أدبية وخطاباً أخلاقياً ورمزياً وتقريراً تاريخياً وكذلك يمتد إلى خطاب من رموز وأساطير وأيضاَ إلى أحكام قانونية قليلة. وطبقاَ لذلك تأتي في القرآن أشكال أدبية مختلفة تختلف حسب الموضع الذي تواردت
وحالياً يلزم لفهم القرآن فهماً صحيحاً استخدام علم اللغة وعلم الأدب، وعلى ذلك تركز المفكرين الجدد ومنهم بالأخص المصري نصر حامد أبو زيد. ومن بين المناهج الأدبية تُجيز التحليلات البلاغية والسردية للمؤمن، مستندة إلى النص في صياغته النهاية، إضفاء العصرنة )التحيين بالألمانيةAktualisierung ( الضرورية على القرآن في الحياة.
إن الأشكال الأدبية للقرآن تحتل أهمية بالغة لأنها تعطينا  كيفية استخدم النص الحالي في سياق تكوُنه وما الوظائف التي حققها وقتها. وبينما تسيطر هنا وظيفة الفهم، وظيفة المقدس، فيما تتجلى في مكان آخر “فقط” متعة كلمة الله المسموعة. ولذلك يمكن من خلال أساليب النص وفي أماكن متفرقة الحصول على الأجوبة التي أعطيت عن أية هموم خاصة بذلك الوقت.
ولكن سواء تعلق الأمر بالقرآن أو بأي نص آخر، فلكي يفهم المرء لا يساعد في ذلك معرفة أسباب كتابته وما نجده في البيئة المحيطة به )علم الأنثربولوجيا، علم الآثار، علم الكتابات والبيئة السياسية والاجتماعية وتاريخ الثقافة( فحسب، بل معرفة تركيبه الأدبي )مفرداته، قواعده، أسلوبه وعلاقته باللغات السابقة عليه والمحيطة به(.
إن قراءة وفهم النص يجب أن لا يختصر على معرفة تَشكله وإنما أولاَ من اتحاد كل العوامل التي جاء ذكرها سابقاً وثم بعد ذلك من قراءته. إن الدراسات التأويلية تظهر الغامض من القرآن، لأن فعل القراءة وكأنه ينتج المعرفة والمعنى. إن القراءة أو السمع هو في البداية نشاط يقوم به في الأساس القارئ أو المستمع. ولا توجد قراءة من دون قارئ ولا استماع من ومعنى النص يوجد في البداية عند المستمع/ القارئ وتوجد رغبة أخاذة حميمية عند البعض لتفكيك النص لمعرفة كيف يؤدي وظيفته.
ولكن مثل هذه “الآلية الميكانيكية”  للوصول إلى معنى النص، فالنص يبدأ أولاً في الوضوح على حقيقته  القارئ عندما يصل القارئ إلى قناعة بأن أحد أجزاء أو أحد جوانب النص تتفق على الأقل مع تجربة عاشها أو شاهدها. إن المستمع أو القارئ هو الذي يكتشف تدريجياً في نسيج النص الطرق التي تجذبه إليه. ومما تقدم يظهر: أنه لا توجد طريقة للولوج إلى النص القرآني– مثله مثل أي نص آخر مقارن به– إلا من خلال منظور ثقافة جزئية أي ثقافة القارئ أو المستمع.
إن الفهم وحتى الجيد منه، يبقى دائماً مرتبطاً بطبيعة القراءة غير المكتملة والانحياز )التحزب( الذي يلازم كل قارئ. فكل قراءة هي قراءة سياقية. ولذلك لا توجد منهجيات تسمح باستنتاج فهم واحد “موضوعي” من أي نص معروف. فالقرآن لا يمكن أن تختصر قراءته على منظور واحد. ولذلك لا توجد قراءة حقيقية واحدة لكل الأزمنة.
ملاحظات ختامية:
يختم الباحث إلى أنه بالنسبة للفكر التقدمي الإسلامي لا يوجد تعارض بين الدراسة العلمية والتحليل الأدبي وبين دراسة القرآن دراسة دينية إيمانية. بل أصحاب هذا التيار أنفسهم، إن هذا المنهج يثري ويكمل التحليل العلمي ويعطيهم الأساس الفكري السليم.
إن المعلومات المستقاة منتقدم من نفسها الفهم الديني الصحيح لكلمة الوحي. لكنها تريد وتستطيع أيضاً أن تساهم في الوصول إلى ذروة فهم النص وبذلك المعنى الديني الصحيح الذي ينسب إلى رسالة الوحي. وعندما يبين المفكرون التقدميون الأبعاد الرمزية والميثولوجية في الخطاب القرآني، فإنهم يبرزون كذلك كيف تشكل القرآن بوصفه حقيقة أزلية. لا توجد ثقافة دينية بدون أسطورة )بالألمانية Mythus(.
فالأسطورة وتشكل أحد الأبعاد وعينا في الحاضر والمستقبل. والقرآن يتمتع بقيمة دائمة لأنه يروي قصصاً والمؤمن يجد بينها ما تحكي قصته الذاتية. وليس كل القصص التي وردت في القرآن تتمتع بقيمة خارج إطار الزمن الذي حدثت فيه.ولكن الأحداث التي رواها القرآن لها تأثيرها على حياة الفرد وحياة الجماعة في الحاضر والمستقبل.
وعندما نتحدث عن منهج جديد وسليم لتفسير القرآن، فلا يعني هذا أهمية الجانب المعرفي والفكري فحسب، بل نلامس أيضاً قيمة الإيمان والتدين في علم الدين الإسلامي والفكر الديني الإسلامي. وكذلك توجد في الواقع أيضاً وجهة نظر أخرى وما يتبعها للتفسير، التي تفهم القرآن، ليس باتباع الحديث إليه فحسب وإنما حتى ما قواعد قانونية شرعية واعتقاديه، وهذا يقود المؤمن إلى أن تقتصر علاقته مع النص على ما يستفيد منه هذه الحالة لا تتخطى العلاقة مع القرآن، عملية استخدام النص لإرضاء الضرورات الشرعية والدغمائية السارية المفعول.
إن الخطورة من هذا الأمر تجعل الموقف من القرآن قائم على الجانب النفعي فقط. وهذه العقلية تؤدي إلى الإيمان، فمثل هذا المسلم لا يرى في علاقته مع القرآن سوى الجانب السطحي والنفعي. إن هذا الإيمان الذي يتشكل من منبع هذه العقلية وهذا التفسير يقوم على شعور متكرر لا يرقى إليه الشك وبكلمات أخرى، مثل هذا الإيمان لا يمس الشعور الداخلي للمؤمن ولا )يجيب( عن أسئلته وشكوكه وحيرته ولا عن التوق والتشوق إلى طريق ذاتي وروحي. وهنا تقتصر ديناميكية الإيمان على الضرورات الأولية والسطحية ويرى ما تبقى كإغراءات )هلوسة( من الأفضل كبتها. يتركز الإيمان في هذه النظرة على ما هو ثابت وبطمأنينة يردد ما هو  )موروث(. في حالة حدوث أزمة يؤدي هذا المنهج إلى نتيجتين: إما الاستهانة )اللامبالاة( أو العنف. فالاستهانة تأتي من المؤمن الضعيف في قناعاته وغير القادر على تحمل أي مسؤولية حقيقية وشخصية. أما العنف فيصدر عند المؤمن الذيويتصور بأن قيمة التدين تكمن في العناد والتصميم على الدفاع عن الأحكام بمعناها الحرفي وعن شكل العلاقات المؤسسة، ولا يهم هنا ما هو الشكل الحقيقي لهذه المغامرة للتأمين والدفاع عن هذه الأحكام.
أما المنهج التأويلي الذي يخضع إلى وجهة نظر أخرى، فانه يسلك الطريق النقدي والتاريخي ويستعيد للنص الموحي حيوية لغته ورموزه وعقلانيته وقوة روحانيته. وربما أذاً ينفتح مجال لأسلوب تدين جديد يتأسس على يقين منفتح أمام الأسئلة والتساؤلات وفخور بالانتشار الواسع للقرآن ومدرك بوعي بأن هذا الانتشار يمكن أن يعطي للمؤمن زيادة في التواضع والانفتاح حيال الأخر، أياً كان ومهما كانت ماهيته.
إن هذا المنهج في التفسير في العصر الحديث جاء نتيجة للتطور التدريجي في الفكر الإسلامي، وقد تأثر هذا المنهج بالعلوم الإنسانية والاجتماعية التي تطرح التساؤلات والتي ينتج عنها الكثير من التحولات. وهي تشير إلى القوى الخلاقة التي وصفها صوفي مغربي معاصر بإيجاز بقوله: “ما يتعلق بالنص فقد بلغ نزول القرآن التدريجي )التنجيم( في الحقيقة هدفه. غير أن هذا لا ينطبق بالنظر إلى مغزاه”.
في لقاء تم منذ ثلاث سنوات بين مفكرين مسلمين ومسيحيين بدعوة من كبير أساقفة كانتربري )Canterbury( في لندن حول موضوع “بناء الجسور” عبر الأمير الحسن بن طلال من الأردن نظره علناً بقوله:
“إذا لم يجد الإسلام السني في السنوات القادمة طرقاً وأسلوباً ليتكلم بصوت واحد عن الأسئلة الأساسية للعقيدة وتطبيقها )مما يعني أيضاً الشريعة( فإذاً لن  فرصة دائمة كعقيدة أن يساير التطور في العالم الحديث”.
أياً كان ما يراد من هذا الأمر، فهناك سؤالان الآن سواء نطقنا بهما أم لا يلازمان دائماً الفكر  الإسلام المعاصر.
السؤال الأول: كيف يتكلم الله؟
السؤال الثاني: من الذي يتكلم نيابة عن الله؟
إن الأصوات التي تحدثت في هذه الورقة والتي تم اختيارها عفوياً واعتباطياً، عالجت في المرحلة الأولى نواحي السؤال الأول.
كما إن الأحكام التي عرضت هنا للفكر الإسلامي التقدمي تطرح اليوم وأكثر من ذي قبل أيضاً، السؤال الثاني بالذات الذي تحاشيه – من الذي يتكلم نيابة عن الله؟
إن أساس القرآن المحدد والواضح نسبياً في تفسيره الحرفي أو اللآحرفي في التفسير الذي ظفر به من المائتي سنة الأولى، لم يعد يعتبر مقدساً وملزماً ومخذولاً من النزوع إلى تفسير مماثل أو شخصي مبرراً بتفسير روح النص، يطرح السؤال الضروري نفسه عن شرعية تفسير جديد كهذا.
وفي الوقت عينه يثور السؤال الذي تجاهله عن المقياس والمعايير للفهم الصحيح للقرآن وكذلك الوحي الإلهي في زمننا. بجانب ذلك يُطرح للإسلام بوصفه ظاهرة اجتماعية وسياسية السؤال القديم والجديد الدائم عن الإجماع: هل ثمة مذهب لاهوتي )فقهي( مثبت للملة الإسلامية )أمة لاهوتية Ummatologie( إذا صح التعبير أي لاهوت إسلامي يوحد الأمة ويجسد إجماعها وما هو دور هذا الإجماع وشروطه وضوابطه المحددة، وما هي أهلية هذا الإجماع لتحقيق عندما يتعلق الأمر بتجسيد إرادة الله ونقلها من مجال الأيمان والأخلاق لتكريسها في مجال الفعل في عصرنا هذا؟
وأخيراً، أليس الأمر كذلك بأن أولئك الذين يدافعون عن الأفكار التقليدية التي تتبنى سلطة النبي أو بالأحرى كلمة الله التي وصلت من خلاله، وأولئك الذين يضعون ذلك موضع تساؤل أساسي إنما هما في النهاية يختلفان حول أحقيتهما ويدعيان تبني سلطة النبي أو بالأحرى نصوص الوحي التي ينقلها النبي كوسيط؟
أو لعلني أجد نفسي كمجرد مراقب للمناقشات الإسلامية الداخلية المعاصرة الأسئلة أقف خارج الحلبة.
* تتميز دراسة كرستيان ترول بكثير من الجدًّة في مقارنة الفكر التقدمي في الاِسلام المعاصر. وهو إذ يجمع في نصه بين التدقيق والتوثيق والتحليل المقارن. ينجح في تقديم إضافاتٍ نوعيه على مستوى البحث في أفكار الاتجاهات الاِسلامية المختلفة. ويطل أيضاً على مناهج التفسير ليرى أن “منهج التفسير في العصر الحديث جاء نتيجة التطور التدريجي في الفكر الاِسلامي متأثراً بالعلوم الاجتماعية والإنسانية”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – Christian Troll, Progressives Denken im zeitgenössischen Islam
1 ــــ صدرت الدراسة في كتيب من مؤسسة فريدريش آيبرت ــــ ألمانيا.
2 ــــ المستقبل العربي حزيران )يونيو( 6 / 2007، العدد 340