الإثنين 1 أغسطس 2022 - 19:27
خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أُوَيْسٌ، هكذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أويس القرني، فمن هو أويس القرني؟ وما قصته؟ ولماذا وصفه النبي بأنه خير التابعين؟
هو أبو عمرو أويس بن عامر بن جزء بن مالك القرني المرادي اليماني، الزاهد المشهور. من سادات التابعين، والأولياء الصالحين، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ولكنه لم يلقه، منعه من السفر إليه بره بأمه، فهو ليس هو من الصحابة، وإنما هو من التابعين، والتَّابِعون هم من لَحِقوا ورَأَوا أصحابَ النبي صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
قال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: "القدوة الزاهد، سيد التابعين في زمانه، كان من أولياء الله المتقين، ومن عباده المخلصين".
عاش أويس بن عامر في اليمن، وانتقل إلى الكوفة، وكان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفين وبها لقي الله شهيدًا.
روى أويس بن عامر عن عمر وعلي، وتعلم على يد كثير من الصحابة ونهل من علمهم حتى صار من أئمة التابعين زهدًا وورعًا، ولقد تعلم منه خلق كثير، تعلموا منه بره بأمه، وتواضعه لربه رغم ما ورد في فضله من أحاديث، ورغم ما ذكره به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وروى عنه بشير بن عمرو وعبد الرحمن بن أبي ليلى ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة وقال كان ثقة وذكره البخاري فقال في إسناده نظر وقال ابن عدي ليس له رواية لكن كان مالك ينكر وجوده إلا أن شهرته وشهرة أخباره لا تسع أحدًا أن يشكك فيه.
مكانة أويس القرني
لأويس القرني مكانة عظيمة يعرفها الصحابة رضوان الله عليهم لما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا فقد عقد الإمام النووي في شرح مسلم بابا في فضائله، وأورد تحته ما أخرجه مسلم رحمه الله من أحاديث في فضله، منها:
عنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: "كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: »يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ« فَاسْتَغْفِرْ لِي. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ. قَالَ: أَلَا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا؟ قَالَ: أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ.
قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَوَافَقَ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ قَالَ: تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ قَلِيلَ الْمَتَاعِ.
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: »يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ«.
فَأَتَى أُوَيْسًا فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: لَقِيتَ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ.
قَالَ أُسَيْرٌ: وَكَسَوْتُهُ بُرْدَةً، فَكَانَ كُلَّمَا رَآهُ إِنْسَانٌ قَالَ: مِنْ أَيْنَ لِأُوَيْسٍ هَذِهِ الْبُرْدَةُ؟"]1[.
كما عقد الإمام الحاكم في المستدرك بابا في مناقبه، وقال عنه: "أويس راهب هذه الأمة".
ولعل من أعظم ما روي في مناقبه الأحاديث الواردة في شفاعة رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأناس كثيرين، وقد جاءت من روايات كثيرة، أصحها حديث عبد الله بن أبي الجدعاء مرفوعا: »لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَكْثَرُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ«]2[.
وفي قصة أويس القرني ـ رحمه الله ـ دليل من دلائل النبوة، حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أويس وعن نسبه، وبرِّه بأمه، ومرضه وبرئه منه، رغم أنه كان يعيش في الكوفة ولم يدرك أو يقابل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حياته، وقد تحقق عمر رضي الله عنه من صفات أويس لما قدم إلى المدينة المنورة، فكانت كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ملامح من شخصية وعبادة أويس القرني
لكل من يريد الوصول إلى الله عز وجل طريقًا يلتمس فيه القرب من الله، وما يميزه عن غيره، فالبعض اتخذ قيام الليلة وسيلة القرب إلى الله، والبعض الآخر اتخذ الاستغفار بالأسحار الطريق الذي ينتهي به إلى حب الله، والبعض اتخذ التفكر وسيلة القرب من الله، ولم يكن أويس القرني كعامة الناس يحيا ولا يفكر إلا في طعامه وشرابه؛ لكنه فهم حقيقة هذه الدنيا، وأدان نفسه وعمل لما بعد الموت، وكان يغلب على أويس القرني التفكر في مخلوقات الله لتنتهي به إلى حب خالقها، ولما قدم هرم بن حيان الكوفة سأل عن أويس القرني فقيل له: هو يألف موضعًا من الفرات يقال له: العريض بين الجسر والعاقل ومن صفته كذا فمضى هرم حتى وقف عليه فإذا هو جالس ينظر إلى الماء ويفكر وكانت عبادة أويس الفكرة.
انعكست عبادة أويس القرني على سلوكه، مما أثر إيجابًا في الآخرين، فقد كان التأثير بسلوكه أكثر منه بقوله، فهو المتواضع لربه، البار بأمه، ومع ذلك فكان دائم النصح والتوجيه للآخرين، قائمًا بالحق رغم معادة الآخرين له ورميه بعظائم الأمور إلا أن ذلك لم يمنعه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومما يروى في هذا الصدد أن رجلاً من "مراد" جاءه وقال له: السلام عليكم.
قال: وعليكم.
قال: كيف أنت يا أويس؟
قال: بخير نحمد الله.
قال: كيف الزمان عليكم؟
قال: ما تسأل رجلا إذا أمسى لم ير أنه يصبح، وإذا أصبح لم ير أنه يمسي، يا أخا مراد، إن الموت لم يُبق لمؤمن فرحًا، يا أخا مراد، إن معرفة المؤمن بحقوق الله لم تبق له فضة وذهبًا، يا أخا مراد، إن قيام المؤمن بأمر الله لم يُبق له صديقًا، والله إنا لنأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر فيتخذونا أعداءً، ويجدون على ذلك من الفساق أعوانًا، حتى والله لقد رموني بالعظائم، وأيم الله لا يمنعني ذلك أن أقوم لله بالحق..
أويس القرني وبذل النصيحة
ولما طلب منه هرم بن حيان أن يوصيه قرأ عليه آيات من آخر "حم الدخان" من قوله: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ]الدخان:40[ حتى ختمها، ثم قال له: يا هرم، احذر ليلة صبيحتها القيامة ولا تفارق الجماعة فتفارق دينك ما زاده عليه.
وكان يخاطب أهل الكوفة قائلاً لهم: يا أهل الكوفة توسدوا الموت إذا نمتم، واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم.
عفو أويس القرني وصفحه عن الآخرين
عاش أويس القرني بين الناس وهم يرمونه بالحجر فلا يجدون منه إلا أطيب الثمر، وكانت يد الأذى تناله إلا أنه كان دائمًا ما يعفو ويصفح، وكان يجالسهم ويحدثهم رغم ما يصيبه من أذى ألسنتهم ويقول أسير بن جابر: كان محدث يتحدث بالكوفة فإذا فرغ من حديثه تفرقوا ويبقى رهط فيهم رجل يتكلم بكلام لا أسمع أحدًا يتكلم بكلامه فأحببته؛ ففقدته فقلت لأصحابي: هل تعرفون رجلاً كان يجالسنا كذا وكذا؟ فقال رجل من القوم: نعم أنا أعرفه؛ ذاك أويس القرني قلت: أو تعرف منزله قال: نعم فانطلقت معه حتى جئت حجرته فخرج إلي فقلت: يا أخي ما حبسك عنا فقال: العري. قال: وكان أصحابه يسخرون منه ويؤذونه قال: قلت: خذ هذا البرد فالبسه قال: لا تفعل فإنهم يؤذونني قال: فلم أزل به حتى لبسه فخرج عليهم فقالوا: من ترى خدع عن برده هذا فجاء فوضعه وقال: قد ترى فأتيت المجلس فقلت: ما تريدون من هذا الرجل قد آذيتموه الرجل يعرى مرة ويكتسي مرة وأخذتهم بلساني..
قد روي عن أويس كثير من الكلمات النورانية التي تفيض بالحكمة والموعظة:
عن سفيان الثوري قال: "كان لأويس القرني رداء إذا جلس مسَّ الأرض، وكان يقول: اللهم إني أعتذر إليك من كل كبد جائعة، وجسد عار، وليس لي إلا ما على ظهري وفي بطني"]3[.
ومن كلامه أيضا رحمه الله في الحث على الخوف من الله ودوام مراقبته: "كن في أمر الله كأنك قتلت الناس كلهم"]4[
وعن أصبغ بن زيد قال: "كان أويس القرني إذا أمسى يقول: هذه ليلة الركوع، فيركع حتى يصبح]5[.
وكان يقول إذا أمسى]6[: هذه ليلة السجود، فيسجد حتى يصبح]7[.
وكان إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والثياب، ثم يقول: "اللهم من مات جوعًا فلا تؤاخذني به، ومن مات عريانًا فلا تؤاخذني به".
وعن الشعبي قال: "مر رجل من مراد على أويس القرني فقال: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أحمد الله. قال: كيف الزمان عليك؟ قال: كيف الزمان على رجل إن أصبح ظن أن لا يمسي، وإن أمسى ظنَّ أن لا يصبح، فمبشر بالجنة أو مبشر بالنار، يا أخا مراد! إن الموت وذكره لم يدع لمؤمن فرحا، وإن علمه بحقوق الله لم يترك له في ماله فضة ولا ذهبًا، وإن قيامه بالحق لم يترك له صديقًا".
وفاة أويس القرني
ذهب أكثر أهل العلم إلى أن وفاته كانت يوم صفين سنة )37هـ(، حيث قاتل مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه واستشهد هناك، بينما ذكر آخرون أنه غزا أذربيجان فاستشهد هناك، والأول عليه الأكثر.]8[
]1[ مسلم: )2542(.
]2[ ابن ماجه: )4316(، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
]3[ الحاكم: )5722( وسكت عنه الذهبي.
]4[ الحاكم: )5722( وسكت عنه الذهبي.
]5[ أي: يطيل الركوع في الصلاة حتى يصبح.
]6[ أي: إذا أمسى في ليلة أخرى.
]7[ أي: يطيل السجود في الصلاة حتى يصبح.
]8[ للمزيد انظر: ابن الأثير أبو الحسن، عز الدين علي بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري: أسد الغابة في معرفة الصحابة، تحقيق: علي محمد معوض، وعادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٥هـ=١٩٩٤م، 1/ 331، الذهبي، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز: سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناءوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1405هـ=1985م، 4/ 19, 33، ابن حجر العسقلاني، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد: الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق: عادل أحمد، علي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ=1994م، 1/ 359, 363، ابن سعد، أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الهاشمي بالولاء البصري البغدادي: الطبقات الكبير، المحقق: علي محمد عمر، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1421هـ=2001م، 6/ 204, 207.